قصة قصيرة تأخذنا في رحلة خاطفة بين محطات حياة بطلتها التي مضى بها العمر دون أن تدرك.

و ما العمر إلا مجرد أرقام محشوةٌ زواياها الحادة بذكرياتٍ عشناها فصارت تسمى حياة.

"أربعة عشر، خمسة عشر، ستة عشر .. ياااه لقد تزوجتُ في مثل هذا العمر" و ابتسمت ابتسامة حنينٍ و عادت بذكرياتها لتلك الليلة؛ ليلة وقعت عيناها عليه للمرة الأولى فأوقعها قلبها في الحب، فكان هو زوجها و حبيبها الأول و الأخير.


تابعت العد و مع كلّ رقمٍ راودتها ذكرى سنةٍ من سنين عمرٍ قضته بالهناء و الشقاء، سنةٌ حلوةٌ سعدت فيها بطفلها الأول، و سنين تعبٍ تلتها فيما بعد حملت بين ثناياها ليالٍ من السهر و صباحاتٍ من الرضا، في بيتٍ ملأ زواياه بكاء أطفالها حيناً و ضحكاتهم أحياناً، و علا بين جدرانه صوت مناوشاتهم الصغيرة و شعارات ثورة المراهقة.و كلما تابعت العد أكثر و مرّت السنين كلما بدأت تلك الأصوات تخبو، خبت سنة ودعت طفلها الأول ليلاحق حلمه بالدراسة في الخارج، و خبت أكثر حين خرجت طفلتها عروساً لعشّ الزوجية السعيد، و خبت أكثر فأكثر حتى لم تعد تسمع سوى صوت الهدوء و السكينة يقاطعها أحياناً سعالٌ مرهقٌ و تأوّهاتٌ ثقيلة.


أكملت مسيرتها في دروب عمرها و دارت بين حلوٍّ و مرّ، و توقفت ذاكرتها يوم توقف قلبه عن الخفقان، يوم ارتدى البيت العتيق حلّة الحداد على صاحبه و راعيه، و ذبلت أزهار الحديقة و سقطت أوراق أشجارها حزناً.

يوم فقدت زوجها .. فقدت الحياة ..

و لم يبقَ في البيت العتيق سواها، و صوت السكون البارد و الوحدة الخانقة و صدى ذكرياتٍ تتردد بين الجدران المسنّة.توقفت عن العد .. أم تاهت في العد .. حين رأت عمرها كله يتلخص في أرقام .. ربما انتهت الأرقام .. أم أنّ عمرها انتهى! لم تعد تدري .. بل لم تعد تذكر ..


تنبّهت على صوتٍ ينادي: "فوزية .. فوزية .. يا أم علي"، نظرت حولها فوقعت عيناها المتعبتين على امرأةٍ غريبةٍ تقف بالقرب منها، فكّرت باستغراب "فوزية ..؟"، حاولت أن تتذكر صاحبة هذا الاسم، حدّقت في المرأة الغريبة التي كانت ترمقها بنظرة مندهشة و هي ما زالت تردد "فوزية .. فوزية .."، أيعقل أن تكون هي "فوزية"؟ أيعقل أنها و في رحلة العودة إلى ماضيها الجميل نسيت أن تذكر اسمها ..؟!


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

هكذا يحقق الادب رسالته المدهشة حين يكون مرآة زمنية في جميع الابعاد ، ومع نص كهذا لا أملك الا ان اجثو على ركبتي واسافر مع هذه الذكريات وما حملته من مقاصد ودلالات . شكرا لك استاذة ميساء ايتها القاصة المتألقة والثرية

إقرأ المزيد من تدوينات ميسا أحمد عبدالله

تدوينات ذات صلة