قصة قصيرة تصف مشهداً من مشاهد الحياة المزيفة التي أصبحنا جميعاً نعيش داخل فقاعتها الهشّة

في مدينة غريبة عنا بطباعها و تطبّعها رغم أنها تقع تحت سقف الوطن ذاته، و بعد يوم عملٍ شاقٍّ من مطاردة شبح العدالة في أروقة قصر العدل، اخترتُ أنا و صديقتي مطعماً يتغنى بحداثته و رقيّه أبناء جيلنا الصاعد، لنتناول فيه غداءً فخماً لا يساوي ربع ما سندفعه فيه من عرق جبيننا في ذلك اليوم الخريفي الذي سطعت في سمائه شمسٌ صيفيةٌ حادّة، و على طاولةٍ تطلّ على الطريق من خلف حاجزٍ زجاجيٍ هشّ جلسنا نتمتم متعبتين، نتباحث في شؤون المعدة الخاوية لنختار ما هو كفيلٌ بإسعادها من أطعمة تعرض نفسها برشاقة على قائمةٍ مزخرفة.


و من وسط سيمفونية الأواني و الكؤوس الجائعة صدحت ضحكاتٌ بريئة فرضت وجودها على الحضور، جُلتُ بنظري في هذا العالم المسحور لتقع عيناي على طفلٍ يتجول في المكان و كأنه مُلكُه، فربما اعتاد أن يملك كل مكانٍ تطؤه قدماه الواثقتان، و أمه تراقبه من بعيد بعينيها اللامعتين و شعرها المحنّى بماء الذهب.


و أثناء تنقّل بصري بين الوجوه الباهتة سقطت مني نظرة هاربة على أرض واقع عالمٍ حقيقيٍ يحدث خارج جدران الفقاعة الزجاجية التي أسرتني داخل أوهامها، هناك أيضاً رأيت قدمين مترددتين لطفلٍ يحاول بخطواتٍ مبعثرة تسلّق شجرة زيتونٍ تاهت لتجد نفسها ملقاةً على قارعة طريقٍ عشوائية، زيتونةٍ وحيدةٍ مهمّشةٍ تشبه تماماً تلك السمراء التي تابعت طفلها بعينين دامعتين و قد امتدّ ساعداها الملفوحين بحرارة الشمس الحارقة التي ألقت جمّ لهبها عليهما، امتدا ليقطفا لقمة عيشٍ قد تكون ثمارها ليست ملكاً لصاحبتهما و إن كانت من حقها.


هنا دارت بي الفقاعة الزجاجية في فُلكها مدار اللانهاية، حتى بتُّ عالقةً في قشرتها الخارجية؛ عينٌ على جنّة و عينٌ على نار ؛ على شفا جرفٍ هار، غير راغبةٍ بالفرار من حمايةٍ وهمية غلّفتني بها الكرة الزجاجية لأعيش في ظلّ رحمةٍ استبدادية، غير قادرةٍ على شيء سوى أن أخدش حياء الواقع باستراق بضع نظراتٍ لعورته المستورة بنسيج خيوط عنكبوت.


و في أوج معركتي مع ذاتي انسحب ضميري ليعاود غفوته بعد أن استيقظتُ على زقزقة عصافير معدتي تبشّرني بوصول ما يلهيني و يشغلني حتى عن أكبر همومي، و عدتُ أنا و صديقتي لتمتمتنا المعتادة و قهقهاتنا الخبيثة التي لا يفهم فحواها أحدٌ سوانا، و التي غالباً ما تكون بضع كلماتٍ لاذعةٍ أو تعليقاتٍ ساخرةٍ موجهةٍ لظهر أحد أفراد هذا العالم المزيف الذي نسكنه جميعاً بتآلفٍ يطغوه النفاق.


و من قلب هذه الفوضى المملّة لمع صوت انفجارٍ خفيف هزّ الحاجز الزجاجي الهشّ، فارتجف كل من هم قابعون تحت قُبّة الفقاعة بأمانٍ و سُلِبَت منهم أبصارهم عنوةً لتفاجَئ بالطفل واثق الخطوات يعدو مسرعاً إلى العالم الموازي لعالمنا الأسير، ليملك المكان هناك أيضاً و يرقص على أنغام وقع حبات المطر، و أمّه تقف على الخط الفاصل بين عالمين متناقضين في التفاصيل رغم أنّ واقعهما واحد، و مختلفين في الظروف رغم تشابههما في المشاعر، تقف هناك تخشى على خصل شعرها الذهبية أن تتعمد بأمطار الحريّة فيخبو لون الذهب ليصبح رمادياً كلون سماءٍ غاضبةٍ على من يختبئ من نِعَمِها.


و من خضّم حيرة الأم نبعت صرخةٌ عاجزة استنهضت بقايا قلوبٍ ما زالت تنبض حباً للحياة، و انطلقت زمرةٌ من الشباب لينقذوا الطفل من براثن عالَمٍ غدّار لا يؤتمن رجوع من يخطو إليه طوعاً، و ما أن لامست قطرات المطر وجوههم العابسة حتى سَرَت في أبدانهم المتيبسة السعادة ليرقصوا جميعاً رقصة الحرية، و أنا ما زلتُ على ذات الكرسيّ أراقب المشهد من خلف الحاجز الزجاجي، أصلّي أنا و كلّ من معي أن يعود كلّ شيءٍ كما كان لنعيش ثانية في زِيف الأمان.


أغمضتُ عيناي على أمل أن يكون هذا من وحي خيالي الذي طالما أتعبني و خطف مني راحة بالي، و فتحتهما و شعاع الشمس يخترق الحائط الزجاجي و صوت صديقتي يعلو بعد أن استعاد طاقته المعتادة: هيا احسبي أنت كم حصة كلٍّ منا من الفاتورة أنتِ تعلمين أني لا أجيد الحساب!



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

رائعة بحق، يجب أن تبدأي في تأليف كتاب

إقرأ المزيد من تدوينات ميسا أحمد عبدالله

تدوينات ذات صلة