قصة قصيرة اجتماعية تدور أحداثها في شهر رمضان عن قِيَم منسية في مجتمعنا
"رمضان كريم" ترددت هذه العبارة على مسامع أبو محمود مراراً و هو يشقّ طريقه ببطءٍ بين دكاكين الحي الذي يسكنه، و قد أثقل كاهل خطواته عمرٌ طويلٌ قضاه في تربية و تعليم أبنائه و جميع أبناء هذا الحيّ، الحيّ الذي لا يكاد يذكره أحدٌ فيه سوى أحجار بعض البيوت المنسية التي بقيت شامخة رغم العمارات الشابّة التي أحاطتها من كلّ جانب.
جلس ليرتاح قليلاً من تعبه المزمن، فهرع علاء لمساعدته على الجلوس و قفزت الكلمات على شفتيه فَرِحة: "رمضان كريم عمّي أبو محمود"، ردّ أبو محمود بابتسامةٍ حنون: "الله أكرم يا ابني" و تابع بمرارة: "والله فيك الخير ما ضل حدا اليوم يساعد حدا"، وضع علاء الأكياس جانباً و عاد ليلعب مع أصدقائه، رحّب أبو علاء بأبي محمود و قال متسائلاً: "لمين كل هالأغراض يا أستاذ شكله عندك عزومة؟" أبو محمود: "آه والله الأولاد بدهم ييجوا يفطروا عندي اليوم كلهم، الله يرضى عليهم ما بخلوني أفطر لحالي ولا يوم برمضان و إذا همّ ما أجوا بودوا أولادهم" أبو علاء: "الله يخليلك إياهم و يخليك إلهم"، ردّ أبو محمود و هو يلملم حمله بهمةٍ ثقيلةٍ: "الله يخليك" و مضى عائداً لبيته بذات الخطوات البطيئة، فركض علاء خلفه ليحمل عنه قليلاً من حمله الثقيل.
و هكذا أمضى أبو محمود كلّ يومٍ من أيام الشهر الفضيل، و في كلّ يومٍ كان يجلس ليستريح قليلاً عند أبو علاء و يحدثه عن أبنائه و أحفاده، و بعد أن يرضى عنهم و يملأ السماء بدعائه المتكرر لهم يمضي عائداً بخطواته البطيئة إلى بيته المنسي، و في كلّ يومٍ كان علاء يتساءل لماذا لا يخرج أحفاد أبو محمود للعب مع أولاد الحارة، و لم يجد يوماٍ إجابةً لتساؤلاته.
و ذات أمسيةٍ رمضانية و مع ارتفاع صوت القرآن الكريم في مسجد الحيّ مؤذناً باقتراب موعد الإفطار، و بينما كان أبو علاء يقفل دكانه انتبه علاء لوجود كيسٍ في الزاوية يبدو أنّ أبو محمود قد نسيه أثناء استراحته اليومية، فحمله و كأنه وجد كنزاً صغيراً و ركض مسرعاً تسابقه قدماه لبيت أبو محمود ليعيده له، متجاهلاً نداء أبيه و طلبه له بأن ينتظر لبعد الإفطار.
وقف علاء على باب أبو محمود بعد أن فتحه له و ناوله الكيس مبتسماً، كانت عيناه تحاولان استراق النظر و السمع داخل البيت الذي خيّم عليه هدوءٌ يستحيل معه وجود أحفاد أبو محمود الذين لا عدد لهم، فتناوله أبو محمود قائلاً: "بسرعة روّح يا ابني أكيد أهلك بستنوك عالفطور"، و ودّعه بابتسامةٍ مترددةٍ و أغلق الباب بارتباكٍ دون حتى أن يدعوه للدخول، أثار هذا التصرف الغريب من ذلك الرجل المسنّ اللطيف فضول علاء، وقف مفكّراً للحظة، نظر حوله نظرةً متفحّصة، و فجأة تنبّه لوجود نافذةٍ منخفضةٍ في الجدار الخلفي لبيت أبو محمود، توجّه إليها بهدوء و نظر من خلالها باحثاً عن شيءٍ يجهله، فوقعت عيناه على مائدةٍ كبيرةٍ ممتدةٍ وسط الصالة و قد امتلأت بالأطباق و الأكواب و أنواع مختلفة من الطعام و الحلويات، و ملأت الدهشة عينيه حين شاهد أبو محمود جالساً على رأس المائدة بعد أن سكب الطعام في الأطباق و وزّعه على الطاولة متحدثاً ضاحكاً، و جلس يتناول إفطاره وحيداً .. لم يكن برفقته أحد، لا أولاد .. لا أحفاد .. لا أحد، أبو محمود كان يأكل و يتحدث و يضحك وحيداً .. وحيداً.
عاد الصبي مصدوماً و قد غلبته دموع طفلٍ بريءٍ لم يكن مستعداً بعد لرؤية مشهدٍ من مشاهد قسوة الحياة التي سيُفاجأ بها في أيام حياته المقبلة، لم يستطع أن يخفي ألمه و حيرته، أراد أن يخبر والده لكنّ ابتسامة أبو محمود التي ارتسمت على وجهه المجهد أمام أهل الحيّ و هو يرضى عن أبنائه الذين فرقتهم السنين و أبعدتهم الأيام فتحولوا لذكريات زمنٍ جميلٍ ما زال حاضراً في ذاكرة هذا العجوز المسكين منعته من ذلك، منعته من أن يمحو صورة العائلة المحبّة التي رسمها لأبنائه، أمام جيرانٍ لم يكترث أحدهم يوماً لينتبه أنّ هذا الرجل الذي عاش عمره يعلمهم الحياة قد أصبح وحيداً .. ضعيفاً .. لا سند له في هذه الحياة، كان كلّ هذا أكثر من أن يستوعبه أناسٌ نسوا أنهم ليسوا وحدهم في الدنيا و تذكروا فقط أنفسهم، لكنه لم يكن أكبر من أن يستوعبه عقل و قلب ابن الثانية عشر عاماً الذي قرّر أن يحقق حلم أبو محمود و أن يحيطه بعائلةٍ محبّةٍ فعلاً.
في اليوم التالي و مع ارتفاع صوت الأذان طُرِقَ باب أبو محمود، قام بخطواته البطيئة و نفض غبار باب البيت المنسي ليفتحه، ففوجئ بأبناء الحيّ مجتمعين عند بابه و على رأسهم علاء الذي قال بعزم: "جدّي أبو محمود جينا نفطر عندك اليوم"، و لم ينتظر إجابةً من الشفاه المرتعشة و تابع: "يلّا يا أولاد تفضلوا على بيت جدّكم"، انطلق الأولاد بفرحٍ إلى المائدة بعد أن عانقوا جدّهم أبو محمود، وقف أبو محمود يتأمل البيت المنسي و قد تذكره الفرح و عادت له الحياة من جديد، هربت من عينيه دمعةٌ التقت مع ابتسامةٍ خجولةٍ ترتجف على شفتيه فأحسّ بكفٍّ تلامس كتفه و جاءه صوت أبو علاء: "كلنا في الحارة ولادك .. منك تعلمنا الحروف و على إيدك تربينا و ولادنا كلهم أحفادك، سامحنا إذا غلطنا بحقك أو نسينا يابا"، ضمّ أبو محمود ولده لصدره و بكى، و بكبرياء شجرةٍ عتيقةٍ مسح دموعه بيديه، و مضى بخطواتٍ سعيدةٍ ليسكب الطعام لأحفاده .. متحدثاً .. ضاحكاً .. و جلس على رأس مائدةٍ ممتدةٍ يملؤها الحب و المودة و العطف و الحنان.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
بوركت اناملك وبالتوفيق عزيزتي
بالتوفيق يارب
قصة ببساطتها نسجت أجمل المعاني وأوصلت رسالة مهمة حول من نحبهم ولا ننساهم لكن الحياة تشغلنا عنهم
رائعة عزيزتي استمري