كما أبي الطيب الناطق عن خواطر الناس فنال من المحبة ما نال، كان حاتم الذي رآنا وصورنا فنال منا ما لم ينله أحد غيره.

الفن الخالد هو الفن المتجدد فينا، يعيد استكشافنا من جديد كلما أعدنا استكشافه، يعرف مراحل حياتنا كلها، لا تنضب معانيه، يحكي عن الجرح المندمل والجرح المكشوف والحاضر المر والمستقبل المجهول، يعرف هل تريد لمستقبلك أن يأتي أو لا، يفهمك.

قيل عن كتاب "المقالات" لمونتاني أنه كتاب يشبه جميع الناس باختلاف ظروفهم وزمانهم ومكانهم، إنه يشبه الإنسان بمعناه الصرف؛ لم يقرؤه أحد إلا قال: هذا أنا.

يذكرني ذلك بالموناليزا، اللوحة المعجزة؛ يقال أن ليوناردوا سلط الضوء عليها -بطريقة تبدو عفوية- لنعجز عن فهم مشاعرها، ولتبدو بأنها تتجه برأسها نحونا. يقال أنها في النهاية تعكس مشاعرنا نحن؛ الحزين يراها حزينة مثله، وتبقى تجول بنظرها معك، إنها تغور في روحك، تنظر لروحك مباشرة.

هكذا أعرّف الخلود.



لا أهتم بالمخرجين عادةً، المخرج وراء الشاشة بالنسبة للمشاهد. الناقد والمهتم قد يبحث عمن وراءها، لكني إنسانة اعتيادية بسيطة، أشاهد فحسب. حاتم علي في النهاية استثناء؛ الوحيد الذي كنا نتحدث عنه في المنزل، كنا نعرفه لا لظهوره على الشاشة، بل لأنّ القصص التي نعيدها كانت ملكه دائماً.

نجتمع على الطاولة، من يقترح علينا شيئاً نشاهده؟ اقتراحات كثيرة غير مهمة تنتهي بالنتيجة ذاتها: الفصول الأربعة. تتكرر المشاهدة وتتكرر أيضاً تعليقاتنا على الأحداث: نجيب له انفعالات أبي ذاتها، يا الله عادل! يا ريت كل الرجال متله، كريم حنون بيشبه الأجداد.


لم أكن أنوي الكتابة عن حاتم، مع أن كل ما قيل لم ينصفه، لأن الكلمات مقدر لها أن لا تنصفه، ولأن الشعور فينا مختلف لا يقولب في قوالب اللغة والتعابير الدميمة، لكني جلست البارحة أشاهد مقتطفات عديدة من مسلسلاته وأدركت أنّ هذا أقل ما نفعله، بعد أن أجاز كينونتنا. لكن ماذا أقول؟ لا فكرة لديّ.

حاتم علي هو ليوناردو الشاشة، ومونتاني الشاشة، وهو كم قالوا عنه: العرّاب. عرّاب التاريخ، وعرّاب القلب العربيّ الجريح، وعرّاب آلامنا وواقعنا. أعيد قلم حمرة والتغريبة الفلسطينية والفصول الأربعة وأحلام كبيرة وربيع قرطبة لأجد فيها تفاصيل جديدة فيّ، شخصيات تشبهني، أحداث تلائم حياتي وتسير مع مسارها، فيها يقاس البعيد على القريب والغائب على الحاضر!


في التغريبة يقول رشدي: "النضج ولادة ثانية، والولادة بتحمل معها أوجاعها، مع فرق: هون الإنسان نفسو بيمارس ولادة نفسو، لازم يموت فيه إشي حتي ينولد فيه إشي جديد.. أوجاع وصراعات وبحث عن الشخصية الموزعة بين الماضي والحاضر وصورة المستقبل." أفكر ملياً بهذه الشخصية الناضجة التي تحمل الأبعاد الثلاثة للزمن، يبدو أن ذاك منال بعيد، ما زلنا عالقين في الماضي، رغم كل الأوجاع، أين الولادة المنتظرة؟ كيف نولد من جديد؟ كيف نجعل لهذا الأسى معنى؟ كيف نستفيد منه؟ كيف أتغير حتى أصل لأنا الحاضر والماضي والمستقبل معاً في أنا واحدة؟ كيف أتحرّك؟ لماذا ما زلنا واقفين في نقطة واحدة؟ حيرتي تشبه كثيراً حيرة عليّ إذ يقول: "قعدت، قعدت أنتظر شو بصير، أحاول أفهم شو بصير، وجدت الأحداث والناس والإشيا بتمر من حولي وأنا ضايع في النص، براقب بس وبحاول أفهم. أخ شهيد وأخ بعدو بيعاني من جراحو، وأنا بعدني بتساءل الأشياء اللي صارت في حياتي حصلت الي مش أنا اللي عملتها، أفكاري معظمها كان تعليق عالماضي. حتى الآن بحس إن اللي مش فاهمو أكثر من اللي فاهمو، يمكن هذا قدر جيل، قدر جيلهم ومعظم جيلي، مش قادر أتواصل مع الناس داخل المخيم، ومش قادر أتواصل معاهم خارج المخيم. حتى الفكر والكتب والأدب مش عارف أحدد موقفي منها، بخاف تكون جزء من الدنيا اللي بتتغير بسرعة أكثر من قدرتي على التغيير. بعرف إنو كل إشي لازم يتغير بعد النكبة، لازم نغير، لازم نتغير، بس إيش هيي صفة التغيير الصحيح؟" أنا في ضياعي أشبه ضياع عليّ الذي عانى أكثر مما عانيت، ليس هذا منصفاً بالتأكيد، لكنها الفوضى الإنسانية ذاتها التي تتكرر فينا على مر الأجيال. هل يرى أحد نفسه هنا كما أفعل أنا؟


ورد في قلم حمرة أيضاً، ليس منصفاً ان نكون أنا وهي في الوضع ذاته؛ هي في المعتقل أما أنا ما زلت أملك حريتي (نظرياً). لكنّي لا أستطيع أن أمنع إحساسي العارم بأن حياتي بأكملها معتقلات، ليس معتقل واحد، بل معتقلات عديدة. أين حريتي مما أنا فيه؟ أين أنا مما أنا فيه؟ فراس، الذي اعتقل لفترة ثم أفرج عنه، يستطيع أن يفهم مشاعري هذه، لماذا أشعر أني سجينة: "طوال الوقت وأنا جوا كنت عم فكر اللي قاعدين برا شو عم يعملوا؟ لدرجة انو نسيت انو اللي قاعدين برا ما عم يعملوا شي مفيد. كمان سألت حالي نحنا ليش منضيع الوقت كلو وما منعمل ولا شي مهم؟" برا وجوا، نحن الاثنان لا نملك الفرص الكافية كي نكون نحن، وكي نفعل ما نريد فعله، لا مكان للحلم ولا للطموح ولا حتى للخيال.


هكذا ألخص حاتم، بما صوّره ونقله منا؛ كيف استطاع أن يصفنا نحن مع مرور الوقت، ونحن صغار، ونحن نكبر، ونحن نشيخ، ونحن نموت ونضيع. في كل صورة منه كلمة تصوّرنا نحن. لم أتحدث عنه هو، لقد تحدثت عما شاهد منا.

مرآتان متقابلتان، انعكاسات متكررة للأولى في الثانية وبالعكس، هؤلاء نحن وحاتم.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أورورا - صُبح

تدوينات ذات صلة