إضاءات من كتاب "عزاءات الفلسفة" لتوظيف الفلسفة في الحياة الواقعية.
عادةً ما تُلاقي الفلسفة مواجهات قاسية لأنها أحياناً تطرح أسئلة محظورة، وفي العموم لا تُقدّم لنا في النهاية إلا تعريفات جامدة عن الصداقة والحرية والحب والإنسان (أو هكذا يراها الناس!)؛ لذا يكون سؤال "ما فائدة الفلسفة؟" مطروحاً دائماً، ومعلّقاً على الأغلب لا سيما عند من لم يتعمق بالقراءة فيها.
في كتاب "عزاءات الفلسفة" يجيب الكاتب آلان دو بوتون بكل بساطة على هذا السؤال، ويحوّل وجهات النظر الفلسفية النظرية إلى واقع يُعاش، أو بالأحرى إلى خطوات لنعرف كيف يمكن لهذا الواقع المرير أن يُحتمل. في ستة فصول عن صعوبات نعيشها ولا نعرف كيف نخرج من غياهبها، يخبرنا بوتون أنّ الإيمان بمعتقدات الفلاسفة قد يكون كافياً للنجاة، وسأستعرض منه طبطبات سريعة موجزة.
العزاء بشأن انكسارات القلب:
في انكسارات الحبّ يوجد على الدوام أفكار سلبية تستمتع في التعشيش بأذهاننا، شعور مستمر بقلة الثقة، قلة الجمال، قلة الذكاء، قلة الكفاءة. شعور مستمر بأننا لا نكفي لمن نحبّ ولهذا السبب تحديداً لم يبادلنا الحبّ نفسه. لكن ماذا لو نظرنا قليلاً إلى ما يقوله شوبنهاور في الحب؟ يرى شوبنهاور أن في الإنسان قوة تطغى على عقله تسمى "إرادة العيش" تدفعه لأن يحبّ شخصاً ما بعينه، وتدفعنا لاختياره هو تحديداً على أساس بسيط: تريد أن تنتج جيلاً جديداً قادراً خَلقياً وخُلُقياً على مجابهة العالم بمرارته؛ فعلى الأطفال أن يكونوا ملائمين من ناحية الطول والبدانة وألا يكونوا شديدي الجبن أو التهور أو البرود أو الانفعال. وبما أننا غالبًا لسنا بشكل مثالي، فقد نكون شديدي الطول أو الأنوثة أو الذكورة، ذقوننا صغيرة أو أنوفنا كبيرة فإننا نسعى لمن يصحح هذه الأخطاء.. أي أنّ صاحب الأنف الكبير سينجذب لفتاة بأنف منمنم لأن إرادة العيش تظنّ أن طفلهما سيكون صاحب أنف مثاليّ.
هذه القوة مهووسة بالأطفال تزرع فينا حبهم حتى نضطر في النهاية إلى الإنجاب، كل ما تريده أن ننجب جيلاً يلائم العالم المخيف أكثر، ولولا هذه الإرادة لما رغب أحدٌ في الإنجاب إلا في حال فقد عقله!
على ضوء تفسير شوبنهاور للحب ندرك لماذا غالبًا نرى الرجال الطوال واقعين في حب النساء القصيرات (بسبب خوف لا واع من إنجاب عمالقة) أما الرجال الأنثويون الذين لا يحبون الرياضة سينجذبون غالبًا إلى النساء المسترجلات، والعاقلون شديدو التفوق قد ينجذبون للنساء السليطات أو الخبيثات. وفي ظل تفسيره نجد عزاءنا في الرفض، لأن رفض من نحبّ لنا لا يعني أننا قبيحون أو أغبياء أو لا نستحق، بل يعني أننا لم نكن ملائمين -من وجهة نظر إرادة العيش- لإنجاب طفل متوزان مع شخص بعينه، وسنجد بعد حين شخصاً سيجدنا استثنائيين لأن ذقننا وذقنه سيشكلان ذقناً متكاملاً.
عزاء الفن والأدب:
في أي انكسارٍ نواجهه نستشعر برد الوحدة، وغالباً ما نحتاج عبارة مواسية بسيطة: "كنتُ هناك". هذا الشعور بأننا طبيعيّون، مصابنا ليس حصرياً لنا، ولا لعنة فرديّة تلاحقنا دون الآخرين.. دون ندم لأن شعوراً ما اجتاحنا فجأة وظنناه غريباً أو شاذاً. كلّ ما يحتاجه الإنسان لظهره الكسير أن يُعترف به كسراً إنسانياً عاماً عانى منه أحد في التاريخ وسيعاني منه أحد في المستقبل، إننا نحتاج لهذا البرد أن ينقشع.
يرى شوبنهاور أنّ الفن والأدب أعظم سبيل للمواساة، فعند القراءة عن جرح شابّ رفضته فتاته في رواية ما، سيواسينا شعورنا بأنّ هناك من تألم تماماً كما فعلنا، بل بأن هناك من يستطيع وصف أحاسيسنا بسلاسة، من يفتح الأبواب لشعورنا الدفين كي نفهمه ونقدّره. الأدب يستطيع تحويل الألم إلى معرفة. الأمر يشابه الاقتباسات الصغيرة التي تريحنا فقط لأنّها وصفت حالنا، أو وصفت إحساساً خالجنا لكن لم نفهم كهنه! تخيل كم هو مريح أن تسَع قصة مدروسة الكلمات لجرحك العظيم، هذه تنهيدة كاملة بعد شهيق عميق حبيس.
العزاء بشأن الإحباط:
يُعرّف الفيلسوف سينيكا الإحباط على أنه: تعارض أمنية مع واقع قاس. في هذا التعريف المختصر ينطوي عزاء كامل بشأن كل المرات التي خرجت فيها حياتنا عن السيطرة.
يرى سينيكا أن الغضب ليس شعورًا انفعالياً، عادة تصرفات الإنسان تكون عفوية، فلو رُشِقنا بماء بارد سنرتعش، لكن الغضب ليس حركة جسدية لاإرادية بل هو عملية عقلية ناجمة عن أفكار معينة متبناة عقلانياً، ولن يتغير نزوعنا إلى الغضب ما لم نغير هذه الأفكار والتي هي بمكمنها أفكار تفاؤلية خطيرة حول ماهية العالم والآخرين.
الإحباط والغضب كلاهما ناجم عن الآمال الكبيرة أو غير الواقعية، ولتجنب هذه الحالات علينا التسليم لاحتمال أنّ كل مكروه قد يحصل، دون سبب مباشر، ومهما حاولنا تفاديه.. علينا تقبّل حقيقة أنّنا لا نملك شيئًا في الحقيقة، وكلّ ما نعتقد امتلاكه قد يؤخذ منا على حين غرة. وقد لاحظ سينيكا أن الأثرياء دون غيرهم يعانون من مستوى غير اعتيادي من الغضب ففي إحدى الحفلات عند صديقه فيديوس أوقع عبد فيديوس آنية كرييستال، فغضب غضبًا شديدًا وأمر بإلقاء العبد في حوض للأسماك المفترسة. كان فيديوس ببساطة يؤمن بشكل لا واع أن العالم الذي يعيش فيه لا ينكسر فيه الكريستال! ولو أنه وضع ذلك في الحسبان، لعفى عن غضبه وعن عبده. إذًا الغضب هو الإيمان بأن إحباط بعينه لم يدوّن في قوانين الحياة، والحل لتفادي الغضب هو التوقف لدقيقة، والتفكير بالأثر الذي قد يحدثه الغضب، هل سيغير شيئاً؟ هل سنحصل على ما نريد إن غضبنا؟ وهل ما حدث كان من المستحيل أو البعيد حدوثه؟ لا بد من تطويع أنفسنا مع اللا اكتمالية المتلازمة مع الوجود. الحياة بجوهرها فقد.
النصيحة الخطيرة التي يسديها إلينا سينيكا تقول: "يجب أن نبقي في ذهننا احتمالية وقوع كارثة في أي لحظة!" كل ما نحتاجه هو فهم حقيقة الحياة كي نحتمل أوجاعها.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات