الوقوف على الألم نسبي، لكن الألم ذاته ليس نسبياً. هذه مدونة تنفي الإيمان الشائع بأن عموم الحزن يجعله عادياً؛ الألم مهما صغر ليس عادياً.

أعظم ما تعلمته بعد عشر سنين من الفقد -الذي أضحى هوية كل سوريّ- هو أنّ كلّ ألم مهما صغر يحتاج إلى الاحتواء، وأن ألمي لا يُقاس بآلام الآخرين.

لكني مع الأسف صادفت أناساً في حياتي يعتقدون أن الألم استحقاق يجب أن تحصده من شخص عانى ألماً أكبر. وأنّ فقدانك لبيتك الذي قضيت سنوات طويلة من عمرك تجمع المال لشرائه وتصميمه ليس سوى مجرّد خسارة لا تساوي شيئاً؛ ألماً عادياً لأن كلّ أهل بلدك فقدوا منازلهم. إذن فهو فقد عادي اعتيادي ليس عليك القلق بشأنه.

قد يسهل تجاهل هذه الضغوطات حول ألم الفقد المادي، لكن عندما تتمحور حول أناس فقدناهم أو آلام نفسية وجسدية حاصرتنا يغدو ذلك لا مفر من التفكير فيه، وضغطاً -فعلاً- لا يُحتمَل. أقول هذا الكلام وأنا أتذكر الضجة التي أحدثها انفجار بيروت والذي أجبرنا على إعادة رتق آلامنا مجدداً؛ ذكرنا انفجار بيروت بكل الانفجارات التي شهدناها ظلماً وكل الأرواح التي فقدناها دون أن نتأكد تماماً أنها رحلت عن العالم. كل هذا الألم الذي عايشناه من جديد وأعادنا إلى الماضي الذي حاولنا كثيراً دفنه دون جدوى كان كافياً لنفهم تماماً صعوبة ما يمر به أهلنا في بيروت من ألم وفقد وخيانة. أما من استغل الموقف ليبرز ألمه ويذكر به فهذا من نستطيع القول أنه لم يتعلم شيئاً مما كابده.

وأتذكر أيضاً الموجة التطبيعية التي اجتاحت العالم العربي، وكيف استطاع البعض نسيان كل الدماء التي هدرت وتهدر يومياً في فلسطين في سبيل الحرية. لم تعد الأرواح المقتولة تحرك في قلوبهم شيئاً لأنهم اعتادوا عليها، وبات من العادي أن يموت الفلسطيني، مجرد أعداد تتزايد؛ فما دامت الشباب تموت في فلسطين وسوريا والعراق والسودان، فالأمر ليس عجيباً أو غير اعتيادي لكي نحزن عليه أو نبالي به!


وبنظرة عامة تفصيلية أجد أنّ كثيراً من الناس يظنون أنّ أي نَصَب ما دام عاماً أو يشمل فئة كبيرة فهو بالنتيجة لا يستحق الحزن أو المحاولة ولا يجب علينا الوقوف عنده، والأسوأ ليس من الضروري علاجه فهو لم يحدث أي ضرر أصلاً! يذكرني ذلك بمعاناتي منذ فترة إذ غامرني أرق متعب؛ لا يسايرني النوم إلا ساعتين ليلاً وهكذا يومياً لأكثر من شهر، لم تفلح معه كل محاولاتي سواء في مقاطعة الكافئيين والأجهزة الالكترونية أو ممارسة الرياضة، وساءت نتائجي الجامعية لدرجة كبيرة، وعانيت من تقلبات مزاجية وتعب ينتهي بالبكاء باستمرار لأنّ جفني لا يقبل أن يُغمَض رغم حاجتي الكبيرة لذلك.

بعد أن بلغ السيل الزبى توجهت للصيدلية وابتعت دواء من مصدر نباتي للمساعدة على النوم. جراء ذلك بدأت تنهال عليي تعليقات من مثل: "كلنا ما عم نقدر ننام" أو "ليش في حدا بهالبلد ما عنده أرق" أو "عادي مبارح بقيت للساعة ستة فايق". تحولت معاناتي فجأة لأمر عادي لا يتوجب عليّ القلق بشأنه ولا حتى محاولة إنهائه لأمضي حياتي بسلام، فقط لأنّ البعض يعاني منه بالمثل ويختار ألا يفعل شيئاً! مع أن الإنسان لو فقه فعلاً أهمية النوم في حياته لما ارتضى أن يضيع من قسطه اليومي ساعة واحدة.

كان ثقل كلمة "عادي" يلازمني طول الوقت، ويشعرني أني أبالغ في رد فعلي، أو أنني ضعيفة لا تستطيع التأقلم مع صعوبات الحياة حتى استفقت أخيراً إلى حقيقة أنّ ذلك كله ليس ذنبي، وأنّ من يعاني عليه أن يكون أكبر المتعاطفين مع جراح الآخرين وإلا فهو يباهي فحسب ظانّاً أن كَبَده يجعل منه إنساناً قوياً مخضرماً، بينما في الحقيقة لم يكن ألمه سوى ألم بلا أي معنى، لأنه لم يعلمه شيئاً ولم يجعل منه إنساناً.


الحزن أيضاً ليس حقك إن وجدت شخصاً آخر يعاني من فقد أكبر، ففقدك لأبيك لا يساوي شيئاً أمام من فقد أبيه وأمه معاً، وجلوسك في منزل ليس لك بعد أن فقدت منزلك لا يشبه ألم من يعيش في الخيام.. كل هذا صحيح من وجهة نظر رياضية، لكن الحزن لا يُقارن، ليس أرقاماً ولا يحق لأحد أن يزنه، لا يمكن لحزني أن يصبح أخف فقط لأنّ حزن غيري كان أعظم. بل كل ما تفعله آلام الآخرين هي جعلي أقلق أكثر، وأحزن أكثر لأني حياتي أفضل من حياة الآخرين، ولأن الحياة ليست بعادلة ولا يمكنني فعل شيء حيال ذلك، ولا يمكنني تغيير حال الناس جذرياً.

أستذكر مقولة تقول:

الحزن لا يمكن أن يكون نسبياً أبداً. ليس هنالك حزن صغير وآخر كبير؛ حزن الطفل على فقدان لعبته وحزن الملك على فقدان عرشه، هم حدثان متساويان تماماً.

لا أنكر أنّ المقاومة مهمة، وأن على الإنسان تقدير ما بين يديه والإبتعاد عن تهويل الأمور، لكن أن تُستصغر صعابنا فقط لأنّها تحدث للجميع وأن نُحمّل ندماً دائماً لأننا نخوض غمار المشاعر الإنسانية الطبيعية، وأن تصبح الآلام مجرد منافسات ومبارزات علينا أن نفوز بها، فليس هذا بالفعل الإنساني ولا بالمنطقي، ولا هكذا تعاش الحياة!

إن أكبر مواساة لي عندما تستوطن الأحزان قلبي، لا سيما الأحزان المتراكمة جراء مرارة العيش المستمرة في سوريا، أن أحزاني جعلتني إنسانة، إنسانة قادرة على فهم جروح الغير وعلى احتواء الآلام على اختلافها، لقد كان التعاطف أثمن ما حصلت عليه. وأصبحت على إيمان تام بأنّ الألم الذي لم يعلمني التعاطف كان سدى.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أورورا - صُبح

تدوينات ذات صلة