الرسالة الثانية من رشة ملح إلى رشة فلفل على كباية شاي بالنعنع
يغنّي Ben l'Oncle Soul عن حبيبةٍ تحت الجلد، لا.. إنه لا يغني، بل يَعوي يا عايدة.. يعوي كذئبٍ وحيدٍ مجروح. الأغنية التي أحبها بصوته، سبق أن كانت أيقونة لسيناترا، ولكنها ولدت لأول مرة بصوت امرأة عام 1963م هي الممثلة فرجينيا بروس في فيلم Born to Dance. يا إلهي! لم كلّ المآسي تتفجر من قلب امرأة! لمَ صار عواء بن لونكل سول الآن يتجلّى أمام ناظريّ صوتًا متجسدًا بعينيّ فرجينيا المدموغتين بالحبّ!
تلقيّت رسالتك يا عايدة يوم الإثنين – بسبب مشاكل تقنية عانيتِ منها في تحرير الرسالة على مدونة ملهم، أدعو الله ألا تتكرر – وكنتُ قد خطّطتُ لمراسلتك دوما صباح الأحد. في لحظة تجلٍّ.. انهمرت على دماغي كل الرسائل التي كتبتها في طفولتي وصباي وشبابي لإخوتي، كل تلك السلامات والتحيات التي كانت تلتهم نصف الرسالة – لاعتبارات ديبلوماسية كانت أمّي توليها اهتماما كبيرا – وقارنتها برسائل إبراهيم طوقان إلى فدوى طوقان عندما ملّ الرجل من ذكر أسماء أفراد العائلة فردًا فردًا – أذكر أن أخي كتبَ مرّة (فردَةً فردَة) فنال عقابًا محترمًا – فكتب إبراهيم لها: (يخرب بيتكم ما أكتركم!)، ثم حدّثت نفسي: يعني لازم أردّ عليها فوري؟ خليها ملطوعة تستنّى شويه! مانا يااااما استنّيت!!
كان بإمكاني أن أردّ عليك في التّو واللحظة – فمدونة ملهم حاضرة دائما لاستقبال كلماتنا – لكن.. لا! الرسائل الفورية تفقد طعمها – كالوجبات السريعة – مع أول قضمة يتلاشى الجوع، ولا يستقر الشوق تحت الجلد – كرسائل المسافات الطويلة! حين يقتطع أخي مثلا وقتًا لكتابة رسالةٍ يطلب فيها منّا الدعاء له لأن امتحان الفاينال غدا، وتصل الرسالة بعد شهر أو أكثر، فيكون قد حصل على نتيجة الامتحان، وصارت دعواتنا التي طلبها (بايته) – لكنّه مع ذلك ألحّ في رسالته وطلبها، أغمض عينيه، وأنصتَ.. فوصلته!
أكتبُ لك وقد حظيت اليوم بنفجان قهوة في مكان مختلف، اسمه (تنهيدة)، طبعا.. نظرا لانصراف الناس عن اللغة العربية فاسم الكافيه المدوّن على اللوحة التجارية إنجليزي: Sigh. لكنني أحب اسمه في الترجمة أكثر!
تسخرين من عبودية القهوة وتعزمينني على شاي بالنعناع! وماله؟ كنتُ في فترةٍ من حياتي – مثل كل فلسطيني أصيل – مدمنة على الشاي بالمرمية، ودون عدّ الأكواب – مع كل حد عايز يشرب أشرب – وهكذا.. وفي هذا أعود إلى فنان الكاريكاتير جو ساكو الذي كتب عن جنون الشاي في رحلته إلى فلسطين لتوثيق الحاصل، فوجد نفسه يغرق في بحرٍ من الشاي مع كلّ شخصٍ أو عائلة يتعرف عليها، إلى درجة أنه أرفق أحد الرسوم مع إشارة (خمنوا ماذا أشرب؟)*.
لا يا عايدة.. المسألة ليست في تعلّقنا بالتوافه وتركنا الأساسيات. إنني أتشبّث بما وراء القهوة – لا القهوة نفسها – كما يحدثُ بشأن الأوشحة التي أرتديها – أمي تقول إنها ممتازة لأنها تستر صدر المرأة وردفيها وأنا أهزّ رأسي وأؤمن على كلامها وأقول: بالضبط يا ماما لهذا أرتديها طبعا! – إن القهوة والأوشحة وكذلك الملّاحات التي أجمعها، كل واحدة منها لها إشارتها، لها مفتاح لقفلٍ من بين أقفالي الكثيرة.. الكثيرة.
أتصدقين أني عدتُ إلى دفتر يومياتي، إلى الصفحة الأولى التي كتبتها بتاريخ الخامس من يناير، وكما ذكرتِ في رسالتك: الوَفرَة. أظنني استعدت هذه المفردة من صديقتنا زينب القيسي. لكن عنوان العام كاملا كان: عام الشِّعر والتّركيز والوَفرة. أجل، هكذا بالضبط!
أما الأهداف التي سجلتها إلى جانب ذلك فحققت 4 من أصل 6. هناك هدفٌ أُلغيَ – المتعلق بالتّرجمة كالعادة – وهدفٌ آخر غيّرتُ مساره. لذا.. نوعًا ما، لا أعتبرُ أنّي فشلتُ في تحقيق الشعار وأهداف العام – بغضّ النظر عن "الوَفرَة" التي أغرقتنا يا عايدة، وبالكاد استطعنا النجاةَ بأرنبةِ أنفنا لنسرق بضع ذرات أوكسجين نحيا بها إلى نهاية سنة 2020.
لا أدري يا عايدة، أحيانًا أعتقد أن الله "يؤدبنا" على طريقته.. هذه المِحَن الفكرية التي تجعلنا نرى ظلال الآخرين.. الصورة المنعكسة على باطنِ اليد لا ظاهر الوجه، ما يحدثُ أننا نحفر تحت الجلد يا عايدة.. نسلخه – إن لزِم – لنخرجهم، وننجو. قرأت اليوم تغريدة لفراشتي صفية الشحي تقول فيها:
Be the type of person who leaves a mark, not a scar.
معلش.. معلش.. أحيانا، نحتاج الشخص اللي (يعلّم) علينا؛ عشان نتعلّم. ولا يمنع أيضا من استخدام مرهم ميبو للحروق، وميبو للتجميل.. لنزيل آثارهم بعد حين، مرّةً واحدةً وإلى الأبد!
حضنٌ لكِ.. لأني محتاجة الحضن أكتر منك يا عايدة!
أمل.
ملاحظة: غدًا – بإذن الله – سأمرّ عليك، وآخذك إلى (تنهيدة)، ثم إلى بسمة، لا أعذار!
______________________
*فلسطين – كتاب رائع جدا عبارة عن توثيق رحلة رسام الكاريكاتير جو ساكو إلى فلسطين، صدر عن دار التنوير.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات