من أمل إلى عايده: أتبقّى لنا من أملٍ.. يا صديقتي؟!
.
.
.
كلما مات شاعرٌ
هرعنا باحثين
عن صورةٍ جمعتنا به
لا رثاءً له..
بل محاولةً فاشلةً
لادعاء استمرار الحياة
دون قصيدة..
وكم يبدو ذلك
ساذجًا..
وبائسًا جدًا!
***
أنا آسفة يا عايدة؛ لأن كل تدويناتي مؤخرًا مشبعة برائحة الموت! أنا التي فقدت حاسة شمها جراء إصابتها بكورونا.... صارت رائحةالموت تزكم أنفها الآن، تخيلي!
منذ ثلاثة أيام استعدتُ حاسة الشمّ، وبينما أقرأ سيرة رندا شعث (جبل الرمل) يحضر مزيج (رائحة) سيرتنا الجمعية معها؛ سيرةالفلسطيني الذي يتزوج مصرية، والمصري الذي يتزوج فلسطينية، وصاحب الوثيقة الذي يتزوج صاحبة جواز بهوية، وصاحبة الـ... كل أولئك الذين أوقع بهم الحب بينما كانت حمى الوطن تسلق عظامهم، كل أولئك الذين فقدوا أذرعهم لتأتي ذراعان حبيبتان فتشغلان حيّز الألم وتحضنان المسافة الناضحة من الجسد!
ثم يأتي خبر موت الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي.. يأتي في صورة لغلاف روايته (رأيت رام الله) تضعه صديقتنا الشاعرة لين الوعري على حسابها.. مذيّلا بعبارة: "مريد يلاقي رضوى، ونحن ما زلنا لا نستطيع أن نشتَمّ أوطاننا".
رحيلٌ بالقلب لمن أحبّ.. في عيد الحب!
***
مريد يلاقي رضوى، رضوى التي كدتُ أن أحملها في ذاكرتي الشخصية لتكون عرّابة دراستي للماجستير في الأدب المقارن، رضوى التي كلمها دكتوري في الأدب الإنجليزي بالجامعة - المصري المتزوج من فلسطينية وحمله القدر إلى جامعة قصيّة في مجاهل رأس الخيمة - لتشرف على رسالة طالبة فلسطينية مولودة في الإمارات لا تستطيع الإقامة في مصر بسبب ظروفها الشرقية، ويمكنها أن تتحمل المجيء شهرين في السنة لتأدية الامتحانات والعودة فقط - كل ذلك قبل الزووم وهوس التعلم عن بعد و.... - لترحّب رضوى بصوتها العذب: وماله؟ أنا جاهزه...
ولكن أخي الذي يكبرني لم يكن جاهزا!! معندناش بنات تسافر برّه لوحدها... ولم أرَ رضوى، ولم أحمل جبلها الثقيل في "دوسيهات" الجامعة معي كما كنت أتمنى، ولم أتعرف عن قرب إلى الفلسطيني الذي حرر وطنه في عينيها. ولكن الأيام مرّت.. و(سافر وحدي وَحدَهُ)،فيما بعد!
***
التقينا مريد وتميم على هامش مهرجان مؤسسة طيران الإمارات للآداب منذ عدّة سنوات مضت، نبهتنا رولا إلى عدم التحدث عن رضوى ولا الإشارة إليها في الحوار الودّي الخاص الذي دبرته لنا مع استراحة سيدات. كان موتها طازجا - وسيظل - في عينيهما، واستحضار اسمها وأعمالها يعني مجادلتهما بما لا جدال فيه؛ أنها ماتت فعلا!
لم أنبس ببنت شفة طوال الحوار، كنت أتأملهما فقط، وأوشك أن أبكي.. متسائلة عن ذاكرة وطنٍ في حقيبة يحملانها معهما إلى الأبد،ومتخيلةً كل تلك النباتات التي زرعها مريد في دربه - حيث كان محبًّا للنباتات المنزلية وذا يدٍ خضراء - لعلّ المسافة تحنّ ويعود لفلسطين مشيًا على دربٍ أخضر.
حضرنا بعد ذلك أمسيةً تساءل فيها مريد: الحب غابةٌ أم حديقة!
التقطنا صورةً جماعية، وجدتها منشورةً كذلك على حسابات الأصدقاء. كل واحدٍ منا صار يبحث في ألبومه عن صورةٍ جمعته بالشاعر الراحل فينشرها ليثبتَ أنه كان حيًّا - لا، لا أقصد الشاعر، بل صاحب الصورة؛ فالشعراء لا يموتون، نحن الموتى الذين تحيينا قصائدهم من موتنا اليومي، لنعود فنكمل موتنا إذ يرحلون، إلى أن يموت شاعرٌ آخر فننتبه ثانية.
ماذا ستفعلين يا عايدة عندما أموت؟ أي صورةٍ جمعتنا ستنشرين على حسابك! هل يمكنك اختصارنا - نحن معًا - في صورة؟!
***
ماذا عن صورتهم؟ الصورة الحاضرة في ذهني لهؤلاء الثلاثة هي صورتهما معًا، يتوسطهما حضن تميم، أصدقك القول يا عايدة، لم أقرأ لتميم، وأتهرّب جديًّا من القراءة له أو حضور أي تسجيل شعري يغلفه بحضوره المبالغ فيه.. مبالغ فيه لأنه يحضر بوطنٍ كبير ثقيل على ظهره، وطن يشبه طيرا جارحا يُعمِل مخالبه في عينيه وظهره ويأكل من لحمه الحي. عندما يلقي مريد قصائده، عندما تتحدث رضوى.. يحضر سلامٌ داخليّ أليف لاثنين تمرغا بتراب الوطن ثم شهدا النكبة والنكسة وتشرّدا في المنافي ولديهما صورةٌ كاملة الدسم عن الأرض وما تعنيه رائحة البطولة والحنين.. أما نحن - جيل الـ(عمّو بابا) - فيحضر غضبٌ ممزوجٌ بالأسئلة التي لن تنضج أبدًا؛ لأن طعم القِطافَ سُرق من أفواهنا ولم ندركه، ولا يمكننا تعويضه أو ادعاء ما لم نعِشه.
يا عايدة أنا خائفة، ومرعوبة، وكلّ يوم تنتفخ لخوفي عضلات تعصرني عصرًا، وتحمرّ عينان كالدّم تحرقان روحي حرقًا. أخاف منّا؛ نحن الجيل الذي يحكي عن (المحكي) له ولم يره.. أخاف أن يأتي جيل لن يغني (يمّا مويل الهوى) لأنه ولد بأصابع مبتورة لا تعزف!
أخاف أن أكتب سيرتنا بالعربية فيحتاج أبناؤنا وأحفادنا غدًا إلى من يترجمها لهم!
***
عندما دخلت رندا شعث إلى فلسطين بجواز سفرها الأمريكي تتلمس درب الآلام، أوصاها أبوها - الذي لم يصدق حدوث المعجزة رغم أنه كان كبير المفاوضين الفلسطينيين - بأن تبحث عن بيته الذي هُجّر منه في يافا وتراه بقلبه وعينيه وروحه، وعندما دخل تميم فلسطين بحث في كلّ شبرٍ عنها عن والده الذي شرّدته المنافي، رأى قصائده مطرزةً على كل شجرة وتينة وزيتونة..
أما نحن.. فما زالت فلسطين مطبوعةً على جباهنا، يراها العسسُ.. ويمنعوننا ماءها وهواءها.. ونأكلُ عوضا عن خبز الأمهات وقهوتهن، البراتةَ والكرك.
إننا ذاكرة وطن يا عايدة.. أخاف - وما أغبى خوفي! - أن نتحوّل إلى مسخ وطن بعد كل هذا الموت الذي يأكل الحيّ منّا.
__________________________
ملاحظة: هل الحب غابة أم حديقة يا عايدة؟ .. لقد كان سؤال شاعرٍ عرف الحب فسأل عنه سؤال العارف، فماذا عنّا؟
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات