لم تختَر زهرة كواديي ملامحها، كما لم أخترها أنا، ولدتُ لأجد نفسي على هذه الصورة، ولم يكن لي أيّ فضلٍ في الأصل الذي أنا عليه.

عزيزتي عايدة،

متى كانت آخرُ رسالةٍ كتبتها لك؟ آه! مرّ زمنٌ طويل، ولعلّ طوله كان كافيًا لأصدرَ كتابًا جديدًا، وتترجمَ قصائدي إلى لغةٍ جديدة، ونفتتح مشروع غرفة الكتابة، وأشرعَ في ترتيبات الانتقال إلى سكنٍ جديد، وتنتقلين أنتِ كذلك إلى إمارةٍ أخرى، تسافرين وتعودين، تروحين وتجيئين، و..!

لا، لا أكتبُ لك لأحمّلك حقيبة ذاكرتي، بل لأحكي لكِ عن زهرة!

زهرة التي رأيتُ ثلاث صورٍ لها بلقطاتٍ مختلفةٍ مؤطرةً يعلوها عنوان: مطالبات بإثبات جنس زهرة كواديي.

تأمّلت الصور، آه! أجل، زهرة عريضة المنكبين، ذات بُنيةٍ قد تبدو للبعض ذكوريّة، تقصّ شعرها قصيرًا – يمرّ في خاطري الآن طول شعري.. وأنّ أوانَ قصّه قد حان! – ملامحها تخلو من.. من الأنوثة – هكذا يصفونها – بعض التغريدات الساخرة تصفها بأنها (أكثر ذكورةً من صاحب التغريدة شخصيًّا، وأخرى تراها عابرةً جنسيًّا، وثالثةً تراها خدعة سياسية، ورابعةً تؤكد على أن النساء في كل أحوالهن لا يجب السماحُ لهنّ بممارسة الرياضات، وخامسةٌ، وسادسة، وسابعة، و...).

أبتسمُ، أغمضُ عينيّ فيمرّ طيف طفلةٍ بجديلتين شقراوين وعيون خضراء أمامي، تركضُ في ساحة المدرسة، في مدرسةٍ حكومية في دولةٍ خليجية، في إمارةٍ شماليةٍ لا تعبأ بالعولمة ولا أطياف السيّاح في ذلك الوقت، لن يتكرر وجود مثل هذه الطفلة كثيرًا، السّمارُ والعيون العسلية والبشرة الحنطية والشعر الأسود الطويل هو السائد، كنتُ أنا – وزميلة أخرى في صفّي اسمها كذلك أمل من أصلٍ فارسيّ – وحدنا من يرى العالم بعيونٍ خضراء أو رمادية. كنّا فتاتَين عيونهما (مثل القطاو)، أما بشرتَينا فمن لون (صابّين عليها كلور).

يسهلُ أن تجدي عيبًا في كل شيءٍ يا عايدة، يسهلُ أن تخترعي نُكتةً من كلّ شيءٍ كذلك! كنتُ أقف أمام المرآة – ويندرُ أن أفعل لأنني لم أكن مشغولةً بالمرايا – لأسأل: ما هو تعريفي للجمال؟ للقُبح؟ للحلو؟ للـ.. بايخ!

ثم.. أتذكّر!

أبتسمُ، ترنّ في أذني نبرة مديرة مطعم الجامعة عندما تسأل عنّي إن غبتُ، بلهجتها اللبنانية اللطيفة: وَينا البَيْضا الشّأْرا ما إجت اليوم؟ وترنّ ضحكتي، وردّي عليها: ليكَا سلّة البيض كِلّا!! – وبطبيعة الحال، لم أكن أعني أن دمّي ثقيل.. لكن ذلك اللقب الذي كانت تناديني به لم يكن مَدحًا بالنسبة لي، كان إطارًا أوضعُ فيه.

أتذكّرُ مسلسل "على الدنيا السلام"، الممثلة الأجنبية التي كان غانم الصالح مُغرمًا بها.. ما كان اسمها؟ جوليانا؟ آه.. أجل. لا، لم أكن أنا جوليانا، بل كان أخي بسّام (رحمه الله) – الأشقر بعيون زرقاء كالبحر – وكان هذا اللقب سببًا في شجارٍ لا نهاية له نشب في مدرسته الثانوية، لأن الطلّاب في المدرسة عيّروه ببشرته ولون عينيه، مشبّهينه بتلك الممثلة.

أتذكر الممثلة المصرية عائشة الكيلاني التي التهمها الناس بتعليقاتهم لأنها قوّمت أسنانها – مجرّد تقويم يمكن لأيّ واحدٍ منّا أن يجريه – لكنّه ظهر جليًّا على ملامحها، فأنكر المشاهدون عليها ذلك لأنها كانت مادةً ممتازةً للأدوار الكوميدية الساخرة من ملامح المرأة، والآن ما عاد يناسبها هذا الدور! آه! كيف ارتضت أن تبيع (قُبحًا يُعجبُ الناس)؟ يا لها من وقاحة!

لقد وقعنا في الفخ!

لم تختَر زهرة كواديي ملامحها، كما لم أخترها أنا، ولدتُ لأجد نفسي على هذه الصورة، ولم يكن لي أيّ فضلٍ في الأصل الذي أنا عليه – يمكنني الآن اختيار لون شعر مختلف، أو تغيير لون عينيّ أو نفخ أو شفط ما أريد من جسدي مثلا لكنني لا أفعل – وقد حرصتُ دومًا على إيضاح هذه المسألة لمن يُبدي أي ملاحظةٍ بشأن ملامحي، جسدي مجرّد قالب، جمالُ روحي وعقلي هو ما يعنيني.

ولكنني، يا عايدة، كنتُ ممن انسكبَ على جلودهم أثرٌ ما، فصحتُ معلنةً لوالديّ: لن أتزوّج إلا رجلًا حنطيّ البشرة.. أكره الرجال الشّقر! لا أتخيلُ زوجًا شعيرات ذقنه ذهبيّة اللون! ولا أريد لأولادي – إذ ذاك – ممن يولدون (مصبوب عليهم غرشة كلور). أجل، ستغمضين عينيك الآن، وتضحكين: زوج أمل حنطيّ، بعيون بنيّة، وشعرٍ أسود، بالمواصفات التي برمجها دماغها، وأرادها، وحققها.

هل كنا جميعًا ضحيةً لهذا الفخ؟ فخ التنميط، فخ القوالب الجاهزة للقُبح والجمال، والمقبول والمرفوض، والمرغوب والمنفيّ، آخ! هل ظننّا بأننا تحررنا لأننا ببساطة لسنا مهتمات، وندير رأسنا للتعليقات فلا تعنينا ونركّز على أهدافنا ونمضي لتحقيقها؟

أين أضعنا زهرة كواديي فينا؟ في أي لقطةٍ تحديدًا سقطت منّا؟ أي ملامح علينا أن نرتدي ليقبلنا المجتمع؟ كي لا.. يتنمر.. هذه الكلمة السافرة التي كانت تمرّ فيما مضى فلا يلتفت إليها أحد – بل يشربها كضريبة حياة ويتابع يومه. أين أملُ زهرةَ في أن تقبلَ ما هي عليه، وأن يقبلها الناس على ما هي عليه؟ وأن تختارَ ما يلائمها، وأن تُعرَفَ بما تُحِب؟

أين ذلك الـ.. يسمّونه.. الجوهر؟ الروح؟ هل أصبحت أقنعتنا أكثر ضرورةً لنا الآن من أقنعة كورونا الواقية؟ هل باتت الحياةُ مستحيلةً دون قناعٍ يا عايدة؟ هل رسائلنا مُقنّعةٌ هي الأخرى؟ هل من أملٍ لزهرة، ولي، ولك، ولنا جميعًا؟


رشة ملح

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رشة ملح

تدوينات ذات صلة