لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لما عُززنا بالإسلام، ولا عرفنا حُلوّ طعم الإيمان، ولظلّ الجهل حالكاً، والظلام في العقول إلى هذا الزمان دامساً.
قرأتُ يوماً كتاباً فلفتَ انتباهي لأمر جعلني أتفكرُ فيهِ ملياً، وإن كانَ رُبما لو سمعهُ أحداً أو قرأه كان على فكرهِ عابراً كعبور الطيرِ أمامه فهولا يُلقي لهُ بالاً، ولا يُحرّك منهُ جارحةً، ولا أدهشَ لهُ خاطراً، لأنّ الألفة تُذهب العجب.
فلمّا كان الطيرُ طائراً دائماً تراهُ العين دون إنقطاعٍ طويل، ألفهُالذهن فأذهبَ بإلفتهِ العجب، وكذلك الإنسان في هذا الزمان - زمن التقدم التكنولوجي - لم يعد يعجب لنطق الهاتف، ولا لطيران الطائرة، ولا لسرعة سيّارة، ولا لمُدرّعةٍ قاصفة، ولا لسمّاعةٍ مُسمعة - وهي التي توضع في الآذان فيخرج منها صوت الهاتف لايسمعه غيره - ولا للأبراج الشاهقات، وربما لم يعد يعجب لما يُسمونه الآن بالذكاء الاصطناعي مع أنه وليدُ عهده مُتأخر حديثُ الصنع.
ومن هذا أيضاً أنّ النفس الأمارّة تميلُ إلى المحظور غالباً، إلّا مارحم ربي، لأن المُباح أصبح متناولَ اليد مألوفاً.
هذه الأمثلة التي ذكرتها مُريداً أنها عجيبة في ذاتها، بل أكثر منعجيبة، ومع ذلك لا نعجب لها ولا نُدهش منها، وربما لم نتفكر بماهيّتها.
أعودُ إلى كلمات الكتاب الذي لفت انتباهي لأمر، وهو التفكر في ما لو لم يُرسل اللهُ مُحمداً صلّى الله عليه وعلى آله وسلم. كارثة !!
كم يجب علينا أن نحمد الله على هذه النعمة التي هي أكبر النعم ؟إنها نعمة الإسلام التي رفعَ اللهُ بها قدرَ المسلمين، في الدنيا والآخرة،حاضراً وتاريخاً. وإن كان في الحاضر مايُدمي الفؤاد، ويُحزنُ الخاطر. ألا تستحقق هذه النعمة شغل الفكر والقلب بها، اكثاراً من شكرها،ودعاءً ببقائها، وحمداً على رزقها، وسؤال الله عدم الميلِ عنها.
ماذا لو لم نكن مسلمين، - أعاذنا الله من أن نموت على غير الإسلام الحنيف - لخلدنا في جهنم، وهل تدري ما الخلودُ في جهنم ؟ ليس يوماًولا يومين، لا سنةً وسنتين، لا قرناً ولا قرنين، إنّه خلودٌ بلا موت !!
لو وقف الإنسان في الجزيرة العربية ظهيرة يومٍ مُشمس ساعة أوساعتين لشعرَ أن دماغه بدأ بالغليان، وجسده تبلل بعرقه. فكيفَ بجهنم؟؟ أعاذنا الله منها ومن فيحها ..
تَفِرُّ مِنَ الهَجيرِ وَتَتَّقيهِ
فَهَلّا عَن جَهَنَّمَ قَد فَرَرتا
وَلَستَ تُطيقُ أَهوَنَها عَذاباً
وَلَو كُنتَ الحَديدَ بِها لَذُبتا
فَلا تُكذَب فَإِنَّ الأَمرَ جِدٌّ
وَلَيسَ كَما اِحتَسَبتَ وَلا ظَنَنتا
يقولُ اللهُ تعالى : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.
حريٌ بالمسلم أن يُصلحَ عقيدتهُ، ويتعاهد توحيدهُ يوماً بعد يوم، فإنّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ.
قال تعالى : وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا.
وقال سبحانه : إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.
فلا تهزئ فإن الأمرَ جِدٌ، وتعاهد توحيدك في أفعالك، وعباداتك،وحركاتك، وخواطرك، ويومياتك، وأرعِ إلى ذلك سمعك ونظرك وقلبك، فأنتَالمُراد ..
وَتَشهَدُ كُلَّ يَومٍ دَفنَ خِلٍّ
كَأَنَّكَ لا تُرادُ بِما شَهِدتا.
إنّ رسالة الإسلام، رسالة عظيمة، طمست بقدومها الجهل، وحرّرت العبيد، أعزّت الأفراد، ورفعت المرأة، زرعت في النفوس الغيرة، وألجمت الدياثة، تمّمت المكارم، ودفعت بالمساوئ، حرّمت الظلم، وأمرت بالعدل،أقامت النظام، وازدرت الفوضى، بغضّت بالعشوائية، وحبّبت بالإنضباط، أحلّت الطيبات وحرّمت الخبائث، أرشدت إلى كلِّ خير، وزجرت عن كلّشر، أُقيمت من خلالها بُنيان القوانين ودقة الأحكام، فنبت على ذلك من الأمّة العلماء الربانيين، والخلفاء العادلين، والرجال المُجاهدين. خلّفت نساء عفيفات، وبنات شريفات، ربّت على العزيمة المتينة والإرادة الصلبة أجيالاً لو أرادوا إِقْتِلاع الجبال لاقتلعوها، فمضوا أذلةً على مؤمنهم، أعزّةًعلى كافرهم، آمرينَ بالمعروف ناهينَ عن المنكر، مُرفّعين مسلمهم، مُذِلّين مُنافقهم، بعد أن بدّل الله أعِزّتهم من الطُغاة أذِلّة، وأذِلّتهم من الضعفاء أعِزّة.
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لما عُززنا بالإسلام، ولا عرفنا حُلوِّ طعم الإيمان ..
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لفشا الإنتحار، ولكان هو الحلّ الأول عند أولّ مصيبة كبيرة يُصابُ بها الإنسان، المسلم لا يقتلُ نفسهُ في الغالب على عكس غير المسلم فإنّ الكافر ربمّا فكّر بالإنتحار عند كلّ مُصيبة وإن لم ينتحر، وسببُ ذلك قلّة الإيمان، وسببُ ذلك كنوديته فهو يَعدُّ النِقم ولا يعدُّ النعم، ولا يذكرها حتّى فضلاً عن عدّها، وعدم معرفة الغاية التي خُلقَ من أجلها، أمّا المؤمن فحالهُ عند نزول النازلة أنّه يصبر ويحتسب، ويذكرُ نِعمَ الله عليه، ويستحضر أن هذه الدُنيا دار بلاء وليست دار جزاء، ومنزلُ ترحٍ وليست منزلُ فرح ويتذكر أنّ الله ما أرادَ به إلّا خيراً، فيزيدَ بذلك إيماناً،ويُرفع درجةً، فيُكتبَ له أجرُ الصابرين.
ولهذا نرى أن قتل الإنسان نفسه يَكثر في بلاد الكفر بينما يكاد بفضل الله ينعدم في بلاد الإسلام، فالحمدلله.
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لسادَ الجهلُ وبقيَ الاستبداد، فانتشر في الدنيا الفساد، والقتل، وسفك الدماء، وسببُ ذلك أنّه لم يُخشى من سوء العاقبة والحساب، فإذا أُمِنَ العقاب، ضُربت الرِقاب، وُكُسِرت الألباب.
لأن أمن العقوبة يقتضي إساءة الأدب.
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لما خُلّدت اللغة العربية ولتبدلت واندثرت، كما تبّدلت الإنكليزية وغيرها، فلو جئت بأكبر أُدباء وعلماء اللغة الإنكليزية الآن وعرضتَ عليهم نصّاً واحد من القرون السالفة، مافهموا منهُ كلمة.
وعلماء اللغة يُقسّمون تاريخ اللغة الإنكليزية إلى ثلاث طبقات : الإنكليزية القديمة، وامتدت بين عَامي ٥٠٠ و ١١٠٠ للميلاد، والإنكليزية الوسيطة بينَ عامَي ١١٠٠ و ١٤٨٥، وبعدها بدأ عهد الإنكليزية الحديثة، وهي لغة لا علاقة لها بتلك القديمة إلّا قليلاً، فتلك ذات أصول جرمانية وفيها تصريفات كثيرة، وهذه الحديثة حملت كثيراً من سمات اللغة الفرنسية بسبب التغلب السياسي للنورمنديين على إنكلترا خلال الحقبة الوسطى، وقد فقدت كل التصريفات القديمة التي كانت من خصائصها.
والنورمندييون هم : عرّفوا أنفسهم باسم الأنغلونورمان، في حين أن اللغة الأنغلونورمانية صارت متميزة إلى حد كبير عن "الفرنسيةالباريسية"، وهو ما كان موضوعاً لبعض من فكاهة جيفري تشوسر.
في النهاية اختفى هذا التمييز تماماً تقريباً خلال حرب المائة عام،وأصبحت الارستقراطية الأنغلونورمانية تعرف نفسها تدريجياً بأنها إنكليزية، كما أندمجت اللغتان الأنغلوساكسونية والأنغلونورمانية لتكون االإنكليزية الوسطى. وفي تاريخ اللغة الإنكليزية الكثير المُتبدل الغريب، فمن أرادَ فليتوسع.
فالحقيقة التي لا يُماري بها أحدٌ من أهل الإنلكيزية اليوم أن أي أحد من الناس يعجز عجزاً تامّاً عن قراءة وفهم نص كُتبَ بالإنكليزية القديمة - كبائر علماء اللغة فضلاً عن أصاغرها، فضلاً عن عوام الناس - وعجزاً شبه تام عن قراءة أيّ من نصوص الإنكليزية.
بل كما قيل أنّ أدب شكسبير لا يكاد يفهمه إلا واحد من بضع مئات من الناس عندهم، ولم تمضِ على وفاته غير أربعة قرون.
على عكس لغتنا فإنّ الله عزّ وجل أنزل القرآن قبل أكثر من أربعين وأربعمائة وألف عام، ونحن نقرأه ونفهمه بفضل الله، كذلك تآليف العلماء،وصلت إلينا مع فهمنا لها فهماً جيداً، مع أنها صُنفت قبل أكثر من مائتي وألف سنة،
(كالرسالة) للإمام الشافعي، و(الصحيح) للبخاري مثلاً وغيرها الكثير.
فإنزال الله جلّ وعلا القرآن على رسوله مُحمد صلّى الله عليه وسلم فيهِ بقاءُ العربيّة وتخليدها، فإنّه لما كانت لغة القرآنُ عربية، وكانَ القرآن خالداً، كان اقتضاء ذلك خُلود اللغة، وحفظها من التبديل والضياع.
فالحمدُلله.
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لما اِمَّحَى وأدُ البنات، فكم من نفسٍ ستموت حينها ..
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لما عرِف العالم حضاراتنا، وإن كُنّا قد أضعناها من أيدينا، كالأندس مثلاً، ولما كان هناك عهد النبوة ولا عهد الخلفاء الراشدين عهدي العدل والفتوح والعلم، ولما كان هناك دولة أموية، ولا عباسية، ولا عثمانية. ولما كانت حضارة قرن العشرين، والواحد والعشرين
وكما قال الطنطاوي رحمه الله : إنه لولا الهجرة لم تكن المدينة، ولولا المدينة لم تكن دمشق، ولولا دمشق لم تكن بغداد ولا قرطبة، ولولا قرطبة وطليطلة لك تكن باريس ولا لندن ولا نيويورك.
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لعقّت الآباء، وذُلّت الأمّهات، (كما في واقع الغرب الآن)، أقولُ ذلك وأنا عارفاً بمجتمع الغرب بحكم إقامتي فيها لسنوات.
لو لم يُرسل اللهُ محمداً ﷺ لظلّ الجهل حالكاً، والظلام في العقول إلى هذا الزمان دامساً.
فمن لم يعرف ربّه كان جاهلاً، لو قرأ آلاف الكتب و حصّل العلوم الدنيوية كلها، وبنا الأبراج العالية، وصنع الآلات العجيبة، والسيّارات السريعة، فالعاقل من عرِفَ ربّه، لا من حازَ دُنياه، والفَطِن من استعّد لآخرته وسعى لأجلها، لا من عمّر لديناه، وفُنيَ في سبيلها.
فما أكثر الغافلين ..
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات