إنَّ المُسامح يبيت مُطمئن النفس، ويُصبح هادئ الفِكر، ركينَ الكيان رزينه، هادئ الخاطر راضيه


هاتكم نماذجَ من حلم نبيّكم لعلَّ النفس في الصفاء تزكو، والقلب بالحلم يطفو، والروحُ بطيبهِ يعفو، فإنّه ليس ثمّة أكثر راحةً مِن مُضغة نامَ صاحبها وليس فيها مايشوبها من حِقد على هذا، وتفكير بثأرٍ من ذاكَ.


إنَّ المُسامح يبيت مُطمئن النفس، ويُصبح هادئ الفِكر، ركينَ الكيان رزينه، هادئ الخاطر راضيه.


وإنّي أُشبّهُ حال الدنيا بحال الجن الذين كانوا يزيدوا الناسَ رهقاً عندما يعوذون بهم. يقول الله تعالى : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا. فإنَّ الدنيا لقصيرةٌ في أمدها، حقيرةٌ في حقيقتها، ملعونةٌ في وصفها، تُعرّف بالهموم، وتُشهرُ بالغموم، لا تُحبُّ مُحبّها، ولا تخدم خادمها، تهدم مُعمرّها، وتستعبد المؤبه بها.


ومقابلةً لذلك فإنّها تُجبَر لكارهها آتيةً له راغمة، وتصغرُ وتتقزّم في عينِ من لم تكن عينهُ بها، فما هو الذي يجعل العاقل فيها على أصحابه وأقاربه حاقداً، من أقرانهِ ثائراً، بوجوه ناسهِ عابثاً ؟ إنّها لا تستحق على خسارة شيء منها دمعة ولا حتّى غصّة، وإن كان ذلك من غير المُستطاع على أكثرنا. فاللهُ وحدهُ المُستعان.


قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ.


نماذج من حلمهِ صلى الله عليه وسلّم :

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنتُ أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال:يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء. رواه مسلم.


وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهمَّ به أصحابه،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا. ثمَّ قال: أعطوه سِنًّا مِثْل سِنِّه. قالوا: يارسول الله، لا نجد إلَّا أمثل مِن سِنِّه، فقال: أعطوه، فإنَّ مِن خيركم أحسنكم قضاءً. رواه البخاري.


وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كأنِّي أنظر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا مِن الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون. رواه البخاري.


قال النَّوويُّ في (المنهاج) : فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم مِن الحِلْم والتَّصبُّر والعفو والشَّفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنَّهم لا يعلمون، وهذا النَّبيُّ المشار إليه مِن المتقدِّمين، وقد جرى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد.

وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلتُ: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السُّوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قبض بقفاي مِن ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك. قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا؟. رواه مسلم.


فأيُّ حلمٍ هذا وأيُّ خُلق ؟ فهذه التسع سنين، أيُعقل أن أنس رضي الله عنه لم يفعل فيها شيء - غير مُتقصد- لم يستحسنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد لازمه هذه الحقبة ؟ فقد يكون من سياق كلام أنس رضي الله عنه أنه فعلَ شيء بخطأ غير متقصده ربما ناسياً أو غيره، فهذه تسع سنين تُحدث فيها الأحداث الحِسان المُرضية، والوقائع التي من ما ليس يُعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال أنس : ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا؟


فانظر إلى خُلق وحلم سيّد البشر ..


وعن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبيِّ: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن يوم أُحُدٍ؟ قال: لقد لقيت مِن قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم: يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. متفقٌ عليه.


وهذا الحديث في الحلم من أعجب ما قد يسمع السامعون.


وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسم قَسْمًا، إذ أتاه ذو الخُوَيصرة -رجل مِن بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومَن يعدل إن لم أعدل؟! لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أعدل، فمن يعدل؟!، فقال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْه، فإنَّ له أصحابًا يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيهم يمرقون مِن الإسلام كما يمرُق السَّهم مِن الرَّميَّة ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ إلى رِصَافِهِ، فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى نَضِيَّة -وهو قِدْحه- فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدَّم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثَدْي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْ دَر، ويخرجون على حين فُــرْقة مِن النَّاس. قال أبو سعيد: فأشهد أنِّي سمعت هذا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضيالله عنه قاتَلَهم وأنا معه، وأمر بذلك الرَّجل فالتُمس، فأُتي به حتى نظرتُ إليه على نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت. متفقٌ عليه.


وعن أنس رضي الله عنه قال : لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،ثمانون رجلًا مِن أهل مكَّة بالسِّلاح مِن قِبَل جبل التَّنْعيم يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاعليهم فأُخذوا، قال عفَّان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الفتح من الآية:٢٤. رواه مسلم.


وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : سحر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مِن اليهود، فاشتكى لذلك أيَّامًا،قال: فجاءه جبريل عليه السَّلام، فقال: إنَّ رجلًا مِن اليهود سحرك، عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها مَن يجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله تعالى عنه، فاستخرجها، فجاءه بهاف حلَّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّما نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه حتى مات.


وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكلمنها. فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك، فقالت : أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك، قال: أو قال: علي. قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم . متفقٌ عليه.


هذا وفي السنّة والسيرة الكثير من المواقف في حلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكرت بعضها للأسباب المرجوّة، وليس المقصود الإحاطة بها، ومن أراد التوسع فليرجع إلى سنتّه الشريفة، وسيرته العطرة، فحريٌ بالمسلم، أن يعرف سيرة رسوله، ويتأسَّ بهديهِ.


وقد جعل اللهُ سبحانه النبيّ صلّى الله عليه وسلم أسوة لهذه الأمّة، فلنقتدِ به، ولنهتدِ بِهديه، ولنتشبّه به، فإنّه - والله - كما وصفه ربّه جلّ وعلا، لعلى خُلُقٍ عظيم ..


فتشبّهوا إن لم تكُونوا مثلَهمْ

إنَّ التشَبّه بالكرامِ فَلاحُ.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات عبد العزيز جنيد

تدوينات ذات صلة