إن ما لا يَدريه الكثير أن اللهجات العامية كلمات وألفاظ محكية بين الشعوب منذ القدم، وهي كل متداول بغير العربية الفصحى في البلد باختلاف وتعدد القرى والبيئات.

محتويات المقال:


▼ بدء انحراف العامية عن الفصحى.

▼ دعوة متطفلة من دخيل أجنبي.

▼ أقسى ما يؤذيك يأتيك من ذويك.

▼ لم تعد الحرب الآن كما كانت سلفًا.

▼ الخوف على مستقبل اللغة العربية.

▼ تساؤلات محيرة.

▼ لهذه الأسباب؛ لا يتداول المصريون الفُصحى.

▼ خطوات تربوية نحو تمكين اللغة العربية الفصحى.

يقول عالم اللسانيات الفرنسي المعاصر لويس جان كالفي (Louis-Jean Calvet) مؤلف كتاب حرب اللغات والسياسات اللغوية: "ليست اللهجة إلا لغة مهزومة، بينما اللغة لهجة منتصرة سيـَـاســِــيًّا". وهو يقصد باللغة؛ تلك الوسيلة التواصلية التي تهدف إلى الإفصاح والتعبير عن الفكر والظواهر والأحداث بين مجموعة من الناس، باستخدام كلمات وألفاظ تعد أصلًا فصيحًا لهذه الوسيلة منذ نشأتها، وقد اصطُلِح على تسمية هذه اللغة بالفُصحى. أما اللهجة؛ فهي إحدى أدوات ووسائل التواصل، وضرب من ضروب اللغات، لا ترتبط بالنطق الحرفي لفُصحاها، ولا تحتكم -غالبًا- إلى قواعد ثابتة كما هو الحال في اللغة الفصحى. ويظهر من ذلك أن اللغة لها سطوة السبق، وبريق التفوق في الفصاحة والبلاغة، ورونق الانتشار والتوسع بين أهلها قاطبةً، ولذا يقول عالم اللسانيات الروسي ماكس فاينريش (Max Weinreich): "اللغة لهجة تمتلك جيشًا وأسطولًا بحريًا". وهذا تشبيه لقوتها بقوة الجيوش.


وقد أجمع عدد ليس بالقليل من الكتاب المشهورين بين أعلام الفكر العربي على خطورة اللهجة العامية وآثارها الكارثية والمدمرة على اللغة العربية الفصحى، من بين هؤلاء: د. محمد محمد حسين في كتابه (اتجاهات هدَّامة في الفكر العربي المعاصر)، وكتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، والأديب محمود محمد شاكر في كتابه (أباطيل وأسمار)، ود. عائشة عبد الرحمن في كتابها (لغتنا والحياة)، ود. نفوسة زكريا في كتابها ودراستها للدكتوراه في الآداب بعنوان (تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر)، وكذلك د. عمر فروخ في كتابه (القومية الفصحى)، وكذلك الأديب والمذيع فاروق شوشة في كتابه (لغتنا الجميلة)، وأيضاً الأديب أنور الجندي في كتابَيه (الفصحى لغة القرآن)، (واللغة العربية بين حُماتها وخُصومها).



تابع قراءة المقال..


▼ بدء انحراف العامية عن الفصحى


إن أول ما سُمع في انحراف الناس عن التحدث بفصيح اللغة -على حد رأي البعض- كان في زمن خلافة أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، كما جاء في طبقات الأدباء لابن الأنباري، أن أعرابيًّا قدِم المدينة فقال: «من يقرئني شيئاً مما أنزل على محمد?» فأقرأه رجل سورة براءة وقال: "إن الله بريء من المشركين ورسولِه" بالجر، فقال الأعرابي: «أوَ قد برِىء الله من رسولِه؟ إن يكن الله برِىء منه فأنا أبرأ منه!»، فبلغ ذلك عمر، فدعاه وقال له: «أتبرأ من رسول الله يا أعرابي؟» فقال: «يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت: من يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة براءة فقال: "إن الله بريء من المشركين ورسولِه"..»، فقال عمر: «ليس هذا يا أعرابي..»، فقال: «كيف يا أمير المؤمنين؟» قال عمر: «"إن الله بريء من المشركين ورسولُه"»، ورفع "رسوله"، فقال الأعرابي: «وأنا أبرأ ممن برىء الله ورسوله منهم». فأمر عمر أن لا يُقرىء القرآن إلا عالِمٌ باللغة.


إن ما لا يدريه الكثير أن اللهجات العامية في جميع أرجاء البلدان العربية هي في الأصل كلمات وألفاظ محكية بين شعوب هذه البلاد منذ القِدم، وهي ما أُطلق عليه مؤخرًا (الأدب الشعبي)، والذي يراد به كل ما هو متداول بغير العربية الفصيحة، مما يختلف في البلد الواحد باختلاف القرى وبتعدد البيئات.


▼ دعوة متطفلة من دخيل أجنبي


يقول د. محمد محمد حسين في كتابه (اتجاهات هدّامة في الفكر العربي المعاصر) أن أول انشطار للهجات العامية عن اللغة العربية الفصحى؛ كان من خلال دعوة هدفت إلى تفريق المجتمعين على الفصحى بمختلف الحيل والأساليب. ليس في مصر فقط وإنما في أكثر البلدان العربية. وأمكن حصر هذه الحيل في نقاط ثلاث: أُوُلَاها، مطالبة البعض بإصلاح قواعد اللغة، ومناداة البعض الآخر بالتحول عنها إلى اللهجات السوقية المحلية التي يطلقون عليها اسم العامية. وثانيتها؛ دعوة البعض إلى تعديل أصول الكتابة بها، وحثّ البعض الآخر على التحول عنها إلى الحروف اللاتينية أو إلى حروف أخرى مبتكرة أو مقتبسة. أما ثالثتها، فقد دعى البعض إلى العناية بالآداب الحديثة، وما يتصل منها بالقوميات الإقليمية خاصة، أو إلى تقليد الآداب العصرية الغربية في الأشكال والموضوعات والأساليب، وكذلك دعوة البعض الآخر إلى العناية بما يسمونه (الأدب الشعبي).


جدير بالذكر والتأكيد عليه؛ أن أول ظهور لهذه الدعوة بفروعها الثلاثة كان على أيدي رجالات الغرب في مختلف أرجاء الوطن العربي ضمن ما يطلق عليها حملات الاستعمار، إذ لم يكن ثمة داعٍ بهذه الدعوة أبدًا قبل القرن التاسع عشر. وكل ما كان قبل ذلك من إشارة إلى العامية أو ما كان يسميه القدماء (خطأ العوام) فقد كان المقصود به تقويم اللسان والتنبيه إلى الخطأ، وليس الاحتفاء بألفاظ العامة وأساليبهم وتسجيلها والدعوة إلى معارضة لغة القرآن بها. ومن العجيب أن تظل العربية الفصيحة جامعة لشمل العرب ومصاحبة لهم في كل حواضرهم التي انتقلوا إليها على اتساعها وتنوعها من الخليج إلى المحيط، وعلى كثرة ما أبدعوا من علوم وفنون، ثم يكتشفون فجأة بعد ثلاثة عشر قرنًا مشكلات في كلماتها وفي قواعدها وفي خطِّها، يتعذر معها أن تستمر في الوجود.


والواقع أن هذه الدعوة لم تنشأ إلا في ظل استعباد الغرب للبلاد العربية والإسلامية. ومن الأسماء التي شاركت في هذه الدعوة ودأبت على تنفيذها في مصر –كما يذكر د. محمد حسين-؛ الفرنسي جاستون ماسبيرو Gaston Maspero، الذي سُمِّي مبنى إذاعة وتلفزيون مصر باسمه، كأنه تكريمًا له! والإنجليزي دوجلاس كارفن فيلوت Douglas Craven Phillott، والألمانيان كارل فُلرس Karl Vollers، وفلهلم سْبيتَّه Wilhelm Spitta، والذي يعد أول من دوَّن قواعد العامية المصرية في كتابه (قواعد اللهجة العربية العامية بمصر) 1890م، وهو أول دراسة للهجات العربية في مصر، كما ألَّف كتاب (لهجات المصريين العامية). كان هؤلاء من ضمن الذين قادوا هذه الدعوة في مصر منذ سنة 1880م، فظهر صداها في صحيفة (المقتطف) الشهرية أولًا سنة 1882م ثم انتقل إلى بقية المعينين على هذه الكارثة.



غير أن النشاط الأبرز في هذا المضمار كان لمهندس الريّ الإنجليزي ويليام ويلكوكس William Willcocks الذي كان يشرف على مجلة الأزهر في وقتٍ ما في هذه الفترة. حيث ألقى محاضرة في نادي الأزبكية سنة 1893م أكّد فيها أن "العربية" تمثل عائقًا يمنع المصريين من الاختراع، وأنهم لو ألّفوا وكتبوا بالعامية لفجّر داخلهم ملكة الابتكار والإبداع.


جمعت تلك الزمرة المحتلة المتطفلة على لغة القرآن طائفة من الحكايات والأمثال والأغاني من ما يردّده العوام في مختلف الموضوعات، ونادوا باتخاذ اللهجة التي كُتِبت بها هذه المردَّدات لغةً للتدوين والتأليف والأدب الرفيع. كما نادوا –أيضًا- باستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية. ووضع بعضهم كتبًا استنبط فيها قواعد للهجة مصر العامية (مثل سْبيتَّه) –وقد اقتصر معظمهم على لهجة القاهرة– محاولًا إقناع المصريين بأن لهجتهم هذه لها كل مقوّمات اللغة الراقية. ومنذ هذه اللحظة لَاكَ الناس كلامهم، فردده كل ببغاء وكل بوق وكل سمسار وكل فاسد العقيدة مزعزع الايمان [كما يقول د. محمد حسين].


ويتجذر اهتمام هؤلاء المتطفلين بفصل اللهجات العامية عن العربية الفصحى من خلال إدماج تدريس هذه اللهجات في مدارسهم وجامعاتهم منذ القرن التاسع عشر، بل وأنشأوا مدارس خاصة لدراسة هذه اللهجات واستعانوا بالشرقيين الذين كانوا يعملون في بلادهم، وكذلك بالمستشرقين الذين كانت لهم معرفة باللهجات العربية المحلية، ولم يكن ذلك من أجل البحث العلمي بقدر ما كان بهدف تمكين اللهجات المحلية. ففي فرنسا، دُرّست اللهجات العربية العامية في آخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر في معهد اللغات والحضارات الشرقية الذي أنشئ سنة 1759، وكان أوّل مَن قام بتدريسها المستشرق الفرنسي دي ساسي Antoine Isaac Silvestre de Sacy، والذي أعانه على ذلك السوري ميخائيل الصباغ الذي ألّف كتاباً في العامية المصرية والشامية بعنوان "الرسالة التامة في كلام العامة، والمناهج في أحوال الكلام الدارج "سنة 1886م.


▼ أقسى ما يؤذيك يأتيك من ذويك


وقد تابَعَ هؤلاء الأعاجم المتطفلين بعض الكُتَّاب العرب، الذين يُفترض أنهم من ذوي اللغة العربية. منهم؛ أنيس فريحة، وسعيد عقل من لبنان. ومن مصر؛ إسكندر معلوف، الذي كتب في مجلة الهلال بتاريخ 15 مارس سنة 1902م مقالًا بعنوان "اللغة الفصحى واللغة العامية"، حيث يرى فيه أن سبب تخلف العرب عن الغرب؛ هو التمسك بالفصحى! ومنهم أيضًا؛ أحمد لطفي السيد، الذي دعا في عام 1912م إلى تمصير اللغة الفصحى. ولويس عوض، الذي قال: "فما من بلدٍ حي إلا وشبَّت فيه ثورة أدبية، هدفها تحطيم لغة السادة المقدسة، وإقرار لغة الشعب العامية، أو الدارجة، أو المنحطة".


ومن هؤلاء -أيضًا- كبيرهم وأشرسهم في هذا المضمار؛ سلامة موسى، الذي كان من أبرز المصريين الداعين إلى نبذ اللغة الفصحى، واصفًا إياها بالميتة التي تبعثر وطنيتنا المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية، ولا تخدم الأدب المصري ولا تنهض به. مؤيدًا في ذلك ويليام ويلكوكس، وليس بغريب على موسى هذا الكلام، فهو الذي قال يومًا: "فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها".


وفي المقابل كان ثمة رجالٌ كالحصون الراصدة لكل هذه المحاولات البائسة لهدم لغة القرآن الكريم، من هؤلاء؛ حافظ إبراهيم، ومصطفى صادق الرافعي، وخليل اليازجي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وكذلك المجامع اللغوية العربية.



▼ لم تعد الحرب الآن كما كانت سلفًا


قبل خمسة عقود -أو يزيد-؛ كانت الحرب على أشدها في مواجهة اللغة العربية من قِبل الغرب، أما اليوم فترى الغرب يصنع لنا تكنولوجيا باللغة العربية، بل وبأدق قواعدها أيضًا، ويصدر لنا مصنفات تتبعهم (كتب ومجلات..) بالعربية، وقنوات إعلامية عالمية بالعربية، فيستشعر البعض أن الحرب على لغتنا -كأنها- قد انتهت، وهنا المصيبة الكبرى، فلا يظن ظانّ أن الرضا قد حل على لغة الضاد من قبل هؤلاء، بل زاد اطمئنانهم لما أسسوا له منذ القرن التاسع عشر من نبذ الفرقة وتشتيت الاتحاد على لغة واحدة، وما زرعوه خلال الخمسة عقود المنصرمة في نفوس أطفال العرب حينئذ، الذين هم (خمسينيُّوا اليوم)، فترى اليوم بعض العرب يفاخر في الساحات عندما يتحدث بلغة غيره ولو كانت ركيكة، وينزوي في الخفاء إذا اضطر للحديث بلغته ولو كان فصيحًا.



_______________________________________________________

إلى هنا أحبابي القراء ينتهي الجزء الأول من هذا المقال،


يُتبع بالجزء الثاني، وفيه -إن شاء الله-:


❒ الخوف على مستقبل اللغة العربية.

❒ تساؤلات محيرة.

❒ لهذه الأسباب؛ لا يتداول المصريون الفصحى.

❒ خطوات تربوية نحو تمكين اللغة العربية الفصحى.


الجزء الثاني

_______________________________________________________



هوامش:

- رضا، أحمد. (1958). معجم متن اللغة ج 1. دار مكتبة الحياة. بيروت. ص53-54

- حسين، محمد محمد. (1971). اتجاهات هدامة في الفكر العربي المعاصر (ط.2). دار الإرشاد. بيروت

Daniel J. Hirst. (2010). Quand est-ce qu'un dialecte devient une langue?. La langue et l'être communi-quant. Hommage à Julio Murillo., Editions du CIPA, pp.179-190. (hal-02545445)


https://albayan.co.uk/MGZArticle2.aspx?ID=7825

https://www.alwatan.com.sa/article/37880

https://www.ida2at.com/legend-egyptian-slang-why-not-bury-salama-moussa/

https://raseef22.net/article/183726-دعوات-أجنبية-أيّدها-مصريون-محاولات-لت

https://www.shomosnews.com/إنهم-يريدون-هدم-الفصحى


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات محمد فرح متولي

تدوينات ذات صلة