"لكل طالب علِم معاصر، إن لم تمش في شوارع مدن العلم العتيقة وتتعرف عليها، فسوف تتعثر خطواتك في طريق العلم وقد تضل الطريق"
عندما أتجول في طرق التاريخ على مدي العصور، أجد العلماء مشمرين على كل ناصية يهدون المارة إلي سبلهم عن علم ومعرفة. وعندما ألقي نظرة عابرة علي نوافذ البنايات، أجد العلماء مشمرين عن سواعدهم ومنكبين في معاملهم إما علي كتاب يقرؤونه أو مع تلميذ يعلمونه أو علي تجربة يلاحظونها.
وعندما أنظر علي أشجار الطريق، أجد العلماء مشمرين عن سواعدهم فوق الأغصان يدققون فيها في تؤدة وحكمة وتمني لكشف المجهول. وعندما أنظر ورائي وأمامي أراهم يمشون ذهابا وإيابا يحملون الكتب علي سواعدهم وشاخصين أعينهم علي الطريق. وعندما أنظر لعامة الناس أجد عيونهم معلقة علي العلماء في اعجاب وتقدير وفخر وابتسامة وأمل في كل جديد. وعندما أمشي في طرق التاريخ، ألاحظ أن طريق العلم هو الطريق الرئيسي في المدن والقري وأجد أن كل الطرق تتفرع من هذا الطريق.
رأيت ذلك في صعيد ودلتا مصر، وفي بلاد اليابان والهند والسند وبابل وخراسان وبغداد والبصرة والأندلس، وفي أثينا وروما، ونابولي، ولندن، وباريس. رأيت كل الشوارع هناك مزينة بعقول العلماء بزيهم البسيط تارة والمزركش والمنمق تارة أخري. وما رأيت عالم في تلك المدن العتيقة في تلك الأزمان الغابرة إلا وبين يديه قلم، وقرطاس، وكتاب، وقنديل. وما رأيت عالم في كل طرق تاريخ العلم التي مشيت فيها إلا وهو في حالة من الفكر، والتدبر، والتمعن، والانشغال.
وما من مرة مشيت فيها خطوة حتى وجدت آثار أقدام عالم مطبوعة علي أديم الأرض، وأبخرة أفكار عقله تعطر الهواء في شهيق رئتاي. وما من مرة مشيت فيها في أزقة وحارات وشوارع التاريخ الواسعة والضيقة إلا وكنت أشعر بالأمان كلما رأيت عالما وبجواره طلاب علمه يستمعون إلى شروحاته في أدب وثناء.
وأخذتني شوارع التاريخ تارة إلى ساحات واسعة وتارة أخري إلي أماكن ضيقة، وإلي طرق تارة سهلة وتارة وعرة، وتارة مستقيمة وتارة ملتوية، حتي كدت أن أضل طريقي في كثير من الأماكن التي كنت أشعر فيها بغربة الزمان والمكان لولا الخريطة التي احملها بين يدي. زمان عتيق، تارة يأخذني إلي ألف عام مضت وتارة إلي خمسة آلاف عام, وأنا ألهث بين هذا الزمان وذاك. فمرة يأخذني تاريخ العلم إلى أماكن كنت قد رأيتها أو سمعت عنها وتارة إلى أماكن لم أسمع عنها أو أرها من قبل.
فمرة يأخذني إلى الأهرامات وطيبة وصقاره ومنف، وتارة إلى روما وأثينا ثم مرة واحدة إلى الصين ومنها إلي روما مرة أخري ثم إلي الهند ثم خرسان وسمرقند وبخاري ومنها إلي باريس ثم إلي بابل ومنها إلي الأندلس ثم أوزبكستان. أتنقل من مكان إلى مكان وأنا ألهث بين شوارع وحارات هذه المدينة وتلك في شغف ونشوة جعلتني أحسد كل زمان ومكان وأنا التقت أنفاسي على أحد نواصي شوارع العلم بعد كل مشوار.
ولكن ما من مرة زرت فيها بلد أو مدينة أو قرية ومشيت في شوارعها في الشرق أو في الغرب، إلا ووجدت شوارعها ومبانيها لا تخلو من علماء في اللغة والأدب والفنون والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلك والطب، علماء يعملون ويفكرون ويتدبرون الكون والحياة والناس حولهم في حرص واتقان وكأنهم هم من أوجدوا هذا الكون بما فيه من جماد وانسان وحيوان ونبات، وزرع وماء وهواء.
كم هي رحلة جميلة أقوم بها من وقت لآخر في مدن وشوارع وحارات وأزقة تاريخ العلم الذي أجد نفسي فيها طفل يلهو بين أقدام الكبار. كم هي رحلات جميلة استلهم منها أساس العلم واستنشق منها الابداع والمعرفة التي لا تنتهي قبل أن أعود لأسترخي بجسدي على مقعد مكتبي الوثير في الدور التاسع في أحد الأبراج السكنية في مدينتي الجميلة. كما أشعر براحة كبيرة وأنا ألقي بعقلي بين صفحات الكتب التي مداد حبرها من لبنات جدران وأسقف البيوت التي كان يقطنها هؤلاء العلماء في مدن العلم العتيقة.
وفي كل مرة يفيق عقلي من بين صفحات الكتب والمجلات التي انغمس فيها ونسي الزمان والمكان، أنظر إلى ملامحي في المرآة وابتسم متمنيا أن تكون أحد لبنات عقلي يوما ما ذات فائدة كلبنات أفكار السابقين في مدن العلم العتيقة. ثم أعود إلى مقعدي وكتبي ومكتبي واترحم علي فيثاغورث، وارشميدس، وارسطو، والبيروني، وبن الهيثم، والخوارزمي، وبن سينا، وبن الحيان، وبن الشاطر، ونيوتن، واينشتاين، وبوهر، وباستير، وجاليلو، وكوبر نيكوس، وويليام هارفي، وفيساليوس، وغيرهم من العلماء.
علماء مشوا في شوارع تاريخ العلم المظلمة لينيروا لي بيتي ومكتبي لأنعم بالتليفون، والراديو، والتلفاز، والساعة، والثلاجة، والبوتاجاز، والكهرباء، التي تدير كل شيء في منزلي ثم سيارتي التي تنتظرني في الشارع لأقودها إلي حيث شئت، والكمبيوتر الذي جعلني أكتب هذا المقال بدون قلم أو قرطاس أو قنديل كما كانوا يفعلون، والإنترنت الذي جعلني أنشر هذا المقال مجانا لقرائي وأنا جالس في مكاني دون طباعة أو توزيع.
انها رحلة لا بد من القيام بها كل يوم لأتجول في شوارع مدن العلم العتيقة قبل أن أبدأ رحلتي كل صباح ومساء لأمشي ولو بعض الخطوات في مشوار العلم في شوارع عقلي وشوارع مدينة اليوم مدينتي الجميلة.
ومن خلال رحلاتي أقول لكل طالب علِم معاصر، إن لم تمش في شوارع مدن العلم العتيقة وتتعرف عليها وعلى علمائها ومعاملها، فسوف تتعثر خطواتك في طريق العلم وقد تضل الطريق.
خالص تحياتي
د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا
وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg