ألا لِيَقُمْ مَن كانَ لَهُ عَلى اللَّهِ، فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ


فاصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ


الحلم : أن تعفوَ عمّن أساء إليك. ولا يصح الحلم إلا ممن يقدر على العقوبة ومايجري مجراها.


وقد قيل كل حلم إمهال، وليس كلّ إمهال حلم، لأن الله سبحانه وتعالى لو أمهل من أخذه لم يكن هذا حلماً. كما أنّ الحلم هو: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب.


قالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لأَشَجِّ عبدِ القَيْسِ : إنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما اللَّهُ: الحِلْمُ والأناةُ. متفقٌ عليه. ومن معاني الحِلمُ،أيِ: العقلُ مع الصَّبرِ، ومن معاني الأناةُ: الرِّفقُ والتَّثبُّتُ في الأمورِ.


ومن فوائد الحديث : أنَّ هذين الخصلتين ـ الحلم والأناة - من موجباتمحبة الله للعبد إذا كان مؤمناً. وأنَّ من كانَ فيهِ هاتين الخصلتين الكريمتين وهو مؤمن، كان مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، متأسياً بشمائله، لأن النبي كان مُتصفاً بهاتين الخصلتين.


وبعدُ فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أحلم الناس، وأوسعهم صدراً، وأحسنهم خُلقاً، فقد عفا عمّن ظلمه وشتمه وآذاه، وكان يصلُ من يقطعه، وهذا من أجمل معاني صلة الرحم وأحسنها، وهي أن تصل منقطعك، لا فقط من وصلك. فكان صلّى الله عليه وسلم يتنازل عن حقوقه ما لم تكن حقوقاً لله، ولا يغضب لنفسه إلّا إذا انتهكت حُرمات الله سبحانه، فغضبهُ دائماً لله.


وقد بلغ النبي ﷺ غاية الحلم والعفو، وفي السنة النبوية الشريفة مواقف حافلة بذلك. وقد جعل الله الجزاء من جنس العمل، وأمر بالعفو، وجعل جزاء هو العفو والمغفرة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ النور ٢٢.


وهذه الآية نزلت في الصديق أبي بكر رضي الله عنه، حين حلف ألّا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة رضي الله عنها ماقال، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وطابت نفوس الأكارم من المؤمنين واستقرت، وتاب الله على تاب في من كان قد تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه، شرع تبارك وتعالى ولها لفضل والمنة، بعطف الصدّيق على نسيبه - مسطح بن أثاثة - وقد كان ابن خالة أبي بكر رضي الله عن، وكان مسكيناً فقيراً لا مال له إلا ماينفق عليه أبو بكر، وكان مسطح رضي الله عنه من المهاجرين في سبيلا لله، وقد تكلم في الحادثة ماتكلم، وتاب فتاب الله عليه منها.


وكان عبد الرحمن بن أبي قحافة رضي الله عنه، مشهوراً بالمعروف، لها لفضل على الأقارب وغير ذوي القربة. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله : (ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) أي : فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب فالله أكرم منك وأرحم فيغفر لك، وكما تصفح عن من أساء إليك فالله يصفح عنك.

فعند ذلك قال الصدّيق : بلى، والله إنا نحب يا ربنا أن تغفر لنا. ثم أعاد إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، مع ذكره قبل هذا ضد ماحكاه حزناً، وغضباً : والله لا أنفعه بنافعة أبداً. فرضي الله عنه وعن ابنته.


ومن جمال الصفح والعفو مارواهُ السيوطي قال : أخْرَجَ ابْنُ مَرْدُويَهْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أمَرَ اللَّهُ مُنادِيًا يُنادِي: ألا لِيَقُمْ مَن كانَ لَهُ عَلى اللَّهِ أجْرٌ فَلا يَقُومُ إلّا مَن عَفا في الدُّنْيا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾.


ويُجدر ذكر بعض أقوال السلف الصالح في الحلم، فإنَّ النظر في أقوال السلف عامةً وفي أحوالهم، وأخبارهم وكتبهم فيه خيرٌ كثير، فيه شحذٌ للهمة، وإثارةٌ في الحَمَاسة، وشدةٌ في العزيمة.


ومن الكتب الجامعة في هذا الباب كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، والكتب في تراجم السلف وسيرهم كثيرة، منها الإصابة لابن حجر، والاستيعاب لابن عبد البرّ، وفي أقوالهم وزهدهم ورقائقهم: ككتاب الزهد للإمام أحمد، وفضائل الصحابة له أيضاً، والزهد لابن المبارك، والمُصنَف لابن أبي شيبة، وصفة الصفوة لابن الجوزي، وهو كتاب مُختصر من حلية الأولياء لأبي نعيم، ومن الكتب المُتأخرة الشيّقة، سهلة الأسلوب كتاب صور من حياة الصحابة، وكتاب صور من حياة التابعين لعبد الرحمن رأفت باشا، والتآليف التي سبقت جميعها كتب نافعة بإذن الله، فيها لطائف وفوائد وعلمٌ أصيل، ولطالما أوصى العلماء في مُطالعة سير وأحوال السلف، لِما وجدوا من أثرها على أنفسهم وعلى طُلّابهم، فهي بعد القرآن دواءٌ من داء الكسل، وبلسمٌ لكدمات وخدوش الإحباط، وقد ترقى بالمسلم فيُصبح ذو شكيمةً بعد خوره، عزيزاً بعد خضوعه، صابراً متوكلاً بعد قنوطه بإذن الله.


بعض أقوال السلف الصالح في الحلم :


قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه : مَن أعزُّ الناس؟ فقال: الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزكم الله تعالى.


وقال الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما : لو أنَّ رجلًا شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى، لقبِلتُ عذرَه.

وقال معاوية رضي الله عنه : عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال.


وعن وهب بن كيسان قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: ١٩٩]

قال : والله ما أمر بها أن تؤخذ إلا من أخلاق الناس، والله لآخذنها منهم ما صحبتهم).


وأُتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث، فقال لرجاء بن حيوة : ماذا ترى؟ قال: إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعطِ الله مايحب من العفو، فعفا عنهم.


وقال مالك بن دينار: أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلًا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن، وهو خائف فدخلنا معه عليه، فما كنا مع الحسن إلا بمنزلة الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساءومن الحبس، ثم قال : أيها الأمير، ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره وجمع له أهله؟ قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُلَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: ٩٢]، يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه، قال الحكم: فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم، ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته .


وعن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال : أحبُّ الأمورإلى الله ثلاثة : العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة .


وعن سعيد بن المسيب قال: ما من شيء إلا والله يحب أن يعفى عنه، ما لم يكن حدًّا.


وعن الحسن، قال: أفضل أخلاق المؤمن العفو .


وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : إذا أتاكَ رجلٌ يشكو إليك رجلًا،فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ، ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزَّ وجل فقل له : إن كنتَ تُحسِن أن تنتَصِر، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع، فإنَّه مَن عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأن الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان.


وقال إبراهيم النخعي : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذاقدروا عفوا.

وعن أيوب قال : لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما فيأيدي الناس، والتجاوز عنهم .


فتشبّهوا إن لم تكُونوا مثلَهم … ‏إنَّ التشَبّه بالكرامِ فَلاحُ


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات عبد العزيز جنيد

تدوينات ذات صلة