الأدب هو الحياة، ولا حياة بلا أدب.. فهو الذي يبني الطباع قويمة
الأستاذ
ليس من الصعب أن تكون مسؤولًا، وليس من السهل أيضًا أن تكون على قدرٍ من المسؤوليَّة!
من هنا دخل إلى عالم المسؤليّات، بعدما كان طالبًا في المدرسة ومِن ثمّ انتقاله إلى الجامعة وتخرُّجه فيها.
كان مُقبِلًا على الحياة، يَخُوض غِمَارها، غَارِقًا في مشكلاتها، مُثقَلًا بأعبَائِها، يَختَلِفُ إلى محاضراته في الجامعة ويَلقَى أساتذته وزملاءه، ومن ثُمَّ يذهب إلى المكتبة التي كانت له طوق النَّجاة والرَّاحة والسَّكينة، ينتبذ مكانًا قصيَّا، يجلس إلى كتاب الأغاني الذي أتم منه سبعة أجزاء في فصله، مُزيَّن له العزلة، ولكن عزلته مليئة بالحياة! وإنّه ليؤثر الانفراد، ويظل جالسًا هكذا إلى أن يأتيه أحد عمّال المكتبة -الذين لا يفقهون بها شيئا!- يعكِّر صفوه، ويقول له حان وقت إغلاق المكتبة؛ يقوم من عزلته وينظر إليه شزرًا، لا يدري ما الذي يفعلونه هنا، هم لا يعرفون كيف يعملون أصلا!! متى ما جاءهم طالب يبحث عن كتاب ما، -في دورهم يجب عليهم أن يجدوا الكتاب ويقدموه له-، ولكن هيهات! يكرهونه المكتبة والجامعة وتخصصه وينسوه الكتاب الذي كان يبحث عنه! هذا هو الفساد، أن توظف شخصا لا علاقة له بالوظيفة، هنا تكمن المعاناة!.
ساحة كبيرة مليئة بالطلاب، كأنهم من كثرتهم، نبات غطى الأرض، وهو يقبل ويدبر بينهم، والشمس تسفح وجوههم، لا يعرف أحدا ولا أحد يعرفه من المعلمين، تسلم مهامه من المدير وقال له الطلبة الآن مسؤوليتك، وانطلق إلى صفه، وهو في طريقه إليهم، رأى طالبا يقف عند باب الصف، نصفه في الداخل والنصف الآخر في الخارج، يُخرِج رأسه وينظر خلسة على المارين، وعندما رآه، دخل مسرعًا ينبئهُم بقدومه، فأقبل عليهم مكفهرًّا، فدخل الصف والضجيج والعجيج يملؤه! فصاح بهم صوتًا اضطربت له الحواس، واقشعرّت الجلود وأُرعشت الأيدي، كلٌّ في مقعده لا حركة ولا سكنة، وأخذ يتجول بين المقاعد عاقدا يديه أمام صدره، متجهّم الوجه، والطلبة يتبعونه بأبصارهم لا ينبسون ببنت شفة.. ألمح الطالب الذي كان يقف عند الباب، مطأطئًا خاشعًا، ومستكينًا ضارعًا، يلوذ بالظلال والظلمات بين المقاعد.. فسكّن روعتهم وأذهب خيفتهم، وتذكر أنه كان طالبا مثلهم، فعاملهم مثلما كان يحب أن يعامله المعلم آنذاك، مع رفع عصا الجد والالتزام عليهم، فمن دونها يغرقون في بحر الطيش واللامبالاة، فكان حازما ضابطا لهم وعليهم، متى ما رأى طالبا يتكلم مع جاره أو يهلس في الضحك.. يشزره بعينه فيلزمه حدّه.
بعدما تعرّف بهم، وميّز الصالح من الطالح؛ أمرهم بإخراج كتبهم، فمسك القلم وكتب على اللوح اليوم وتاريخه، والبسملة، واسم الدرس الأول الذي كان يتناول بعض الآيات القرآنية من سورة لقمان، التي أمرهم في ما بعد أن يحفظوها.
بينما هو يكتب معاني الكلمات على اللوح ويوضِّحها، خرج طالب عن صمته والفضول ينهشه ويثيره، وقال بصوت خافت: لم تقل لنا اسمك يا أستاذ! فالتفت ينظر إليه نظرة استعطاف وتلبية، فوقف إيزاءهم وهو فيهم كالشجرة الخضراء بين الهشيم، وقال: أنا الأستاذ "مُحَمَّد نور جرادات" -بضم الميم الأولى وتشديد الثانية، قالها بصوت مفخّم ويكأنه من بني نمير -وهم من جمرات العرب-، فكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه قال أنا من بني نُمير وفخّم بها صوته وأمال عُنُقه إدلالًا بعزته وافتخارًا بمنعته.. هذا الكلام قبل أن يطفئ جرير جمرتهم بالدمّاغة؛ فلم يرفعوا بعدها رأسًا، ولم تلق قبيلة من العرب بهجوٍ ما لقيت نمير من هجو جرير، حتى صاروا يفرّون من الانتساب إلى نمير، وإذا سئل أحدهم عن نسبه، يقول نحن من بني عامر بن صعصعة.. وبعد، لا أدري ما الذي ساق هذا الكلام في هذا الموضع، فهو بوجهه لا شيء وراءه، لا إعلاء ولا إخفاض، ولا انتساب ولا افتخار! ولكن من يسمعه يحرّك ويشدّد.. يقول إنه قضى عمره في التدريس، وخرّج أجيالًا خدمت الأمة، وهو لم يفح عرفه ولم يعبق أريجه بعد..!!
يبدأ حصّته بالسلام والتّحميد والصّلاة على المصطفى –عليه الصلاة والسلام–ومن ثمّ يكتب لهم بيتًا للمتنبِّي، ويكلّفهم بكتابته وحفظه، وقد لاحة له فيهم بارقة أمل، هذا بعدما أُعجب بهم عندما سمّعوا الآيات التي كلّفهم حفظها سابقًا دون تلجلج، واستيعابهم ونشاطهم المستمر، ويوصهم أن ينشدوه لآبائهم وأمهاتهم وكل من يلقونه من أجل أن يرسخ في عقولهم، فكان لا يمرّ يوم دون أن يكلّفهم حفظ شيء من الشعر، فحفّظهم بعض الأبيات من لامية ابن الوردي، ومطلع لامية العرب، ومطلع بردة البوصيري وميمية أحمد شوقي، هذا ومع أبيات المتنبي، التي كانت وردًا يوميًّا، وورد عليه من هذا الأمر ما استأنف نشاطه، وأرهف طبعه، وجلا عنه صدأ الفتور، وكان قبل كل نهاية حصة بخمس دقائق، يسمّع لهم ما حفظوه..
يجلس في غرفة المعلمين في أوقات الفراغ، تمامًا مثلما كان يجلس في مكتبة الجامعة، فلم ينشط لسماع حديث المعلمين، ولم يستمرئه ذوقه، فكان الكتاب صاحبه، عندما يكون فارغا، يجلس إلى مكتبه ويقرأ فيه، وعندما يرَونَه يقرأ، يغضّون أصواتهم احترامًا له، فقرأ سيرة الأيام لطه حسين في خمسة أجزاء، وكان عندما يأتيه أحد المعلمين، الذي قد يستهويه الأدب، يكلّمه عنه وفيه، يفرح كثيرًا، وتدرّ شآبيب معرفته، فالأدب هو الحياة، ولا حياة بلا أدب.
وهو في هذه الأيام بعدما حالت بينه الحوائل، يترصّد سوانح الفرص، ولم تبدو الحياة له مقفرةً خاويةً على أطلالها.. كما حدث مع طه حسين، عندما كان يرجو السفر إلى فرنسا مع البعثة، ولكن الحرب حالت بينه وبين ما كان يريد! فجلس حزينا، ليس أمامه غاية يسعى إليها، ولا أرب يطمع فيه، يصبح فلا يجد أمامه عملًا ينفق فيه بياض النهار، ويُمسي وقد ثَقُلَت عليه الراحة، فلا يحس من التعب والجهد ما يُغرِيه بالنَّوم، أو يُغرِي به النَّوم، يرى نفسه بعد أن جاوز العشرين لا يزال عِيالًا على أبيه، الذي أثقَلته نفقة البنين؛ هذا قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا بخمسة جنيهات!
والكلام يطول..وعلى الله حكايتنا.
مُحَمَّد نور جرادات
2023/1/5م
الأردن - إربد
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات