"هل الأولوية لأبنانا: التربية أم التعليم! أكاد أجزم أن حال إجابة الجميع هي "التربية ثم التعليم. وإذا حدث وتحقق هذا الحلم فلسوف يرتاح ويهنأ الجميع"


ثلاث مهام ضرورية لتشكيل عقل ووجدان النشيء في كل بلدان العالم، التربية والتعليم والعلم. وتؤدي تلك المهام الثلاث بالتدريج إلى اكتساب الفرد للمعرفة والثقافة وما يترتب عليه من تأصيل للهوية والمواطنة. ومن البديهي أن تسود التربية على التعليم في المرحلة الأساسية، ثم تزداد جرعة التعليم بالتدريج من المرحلة الثانوية إلى الجامعية، ثم تخص مرحلة الدراسات العليا لمزيد من التخصصية في العلم لمن يرغب ويقدر أما إذا حدث وانقلب الهرم بدءا من المرحلة الأساسية من التعليم فإن منابع الوجدان والإنسانية تجف.

فهل لهذا الطرح هنا - التدرج من التربية إلى التعليم ثم التدريب والتنفيذ والتجويد - علاقة من قريب أو بعيد مع الظواهر الكونية وخاصة البيولوجية لعلها تؤكد لزومية التمسك بتطبيقه. نعم سنجد ما يؤكد هذا الطرح في بيولوجيا الخلايا وخاصة الخلايا المناعية.


ودراسة البيولوجيا "علم الأحياء" من أجمل وأروع العلوم التي تجعلك تفكر وتتأمل وتتدبر في خلق الله كلما قرأت معلومة عن حيوان أو تفحصت خلية تحت الميكروسكوب. وعندما تقارن شكل وحجم ووظيفة نفس الخلية في الإنسان والحيوانات المختلفة تشعر بعظمة الخالق وتمطر عقلك بألاف الأسئلة التي قلما تجد لها إجابات شافية.


فعلي سبيل المثال قد تسأل نفسك: لماذا الأسنان في الفئران تظل تكبر إن لم يقرض الفأر شيء ما، أما أسنان الإنسان فلا. لماذا تنموا أسنان العديد من الحيوانات كلما سقطت أما الإنسان فلا. لماذا يصل حمل بعض الحيوانات إلى 20 يوم وأخري إلى 18 شهر. لماذا هناك حيوانات تأكل العشب فقط وأخري تأكل اللحوم وأخري تتطفل على غذاء الآخرين. وكيف تم تشكيل الجينات من الكروموسومات ملفوفة على هيئة كرة لتكون ما يسمي جينوم، ثم تعبئة هذا الجينوم بدقة عالية وهندسة دقيقة في نواة الخلية، ثم تعبئة النواة وسط الخلية وحمياتها بغشاء رقيق جدا، ولكنه مر جدا. وهكذا هناك الآلاف من الأسئلة على مستوي الخلية والأنسجة والأعضاء.


وأتذكر أني دائما ما كنت أسئل نفسي وأنا في مراحل دراستي التعليمية المختلفة وخاصة المرحلة الجامعية بكلية العلوم التي تعطينا فرصة هائلة للتعرف على تركيب ووظائف الأعضاء بالأجهزة المختلفة في الحيوانات البسيطة ثم المعقدة حتى الإنسان. وكان على رأس الأسئلة: متي يبدأ عمل الأعضاء المختلفة في الجسم، وهل كلها تبدأ بالعمل في توقيت واحد، وكيف تعلمت ذلك، وكم من الوقت تحتاجه في عملية التعليم هذه قبل أن تقوم بوظائفها. وكيف أن وقت ووظيفة وتوقيت تعليم هذه الأجهزة يتناسب تمامًا ليس فقط مع حجم الحيوان، ولكن أيضًا مع طبيعة الغذاء والبيئة التي يعيش فيها، والأغرب من كل ذلك توقف كل حيوان عند حجم ثابت وند مرحلة عمرية محددة وفوق كل ذلك الفترة الافتراضية المقدرة لعمر كل نوع من أنواع الحيوانات.


وبعد أن درست العديد من الحيوانات وكذلك الخلايا البشرية وكيف تعمل الجينات والجينوم ثم تخصصت في الخلايا المناعية على المستوي الخلوي والجزيئي، أدركت أن جميع الأعضاء والأجهزة في جميع الحيوانات وكذلك الإنسان تمر بثلاث مراحل أساسية لكي تستطيع في النهاية القيام بوظائفها التي خلقت من أجلها، وهي الدفاع عن الجسم ضد أي ميكروب وفي نفس الوقت عدم إيذاء الجسم نفسه. فكيف بالله تعلمت هذه الخلايا هذا الاتقان والدقة المتناهية في العمل.


المرحلة الاولي تشمل عملية التشكيل والتكوين أثناء الجنين ثم بعد الولادة بأيام أو شهور أو سنوات حسب نوع الحيوان. المرحلة الثانية تشمل عملية التعليم والتعلم والتي تبدأ بعد الولادة من تعلم مهارات الغذاء والحركة والفكر ثم التناسل. المرحلة الثالثة تشمل التدريب والتي تتدرب فيها الخلايا على أساسيات القيام بوظيفتها رويدا رويدًا حتى تصبح قادرة على القيام بالوظيفة علي أكمل وجه. المرحلة الرابعة هي مرحلة الإتقان والجودة والتجويد والتي تكتسبها الخلايا مع تقدمها في العمر.


ومع أن معظم خلايانا تتغير كل أربع إلي سبع سنوات ويحل محلها خلايا جديدة، إلا أن الخلايا الجديدة تنتقل اليها كل المعلومات والخبرات التي اكتسبتها الخلايا العجوزة التي رحلت.


تلك هي سنة الحياة وخلق الله في كائناته الحية. سنة تعتمد على قوانين بيولوجية لا يمكن اختراقها على الإطلاق. وإن حدث وتم اختراقها لسبب جيني أو بيئي أو كلاهما يحدث خلل كبير يؤدي إلى تشوهات، أو أمراض خطيرة قد تؤدي إلى الموت في النهاية. وكلما كان الخلل في مرحلة التكوين والتعليم كانت الآثار السلبية المترتبة على ذلك أكبر وأخطر.


فإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن القيام بالمهام علي أكمل وجه في الكبر إلا إذا كان التعليم علي أكمل وجه في الصِغر. ولذلك خلايا الجهاز الهضمي تأخذ شهورًا طويلة بعد الولادة حتي تتعلم وتتدرب وتتقن الهضم علي أكمل وجه، وكذلك خلايا الجهاز العصبي المركزي تأخذ سنوات طوال قد تصل إلي عشرين عامًا حتي تتعلم وتتدرب علي التفكير واتقانه علي أكمل وجه ثم تُجود بعد ذلك كما وكيفما تشاء، وكذلك خلايا الجهاز المناعي تأخذ شهورا طويلة حتي تتعلم كيف تتعرف علي الأجسام الغريبة من الأعداء ثم كيف تتعامل معها ثم كيف تقضي عليها ثم كيف تتخلص منها ثم كيف تكون مناعة طويلة الأمد ضد نفس الأعداء، وبالطبع يأتي تعليمها وتدريبها قبل تنفيذ المهام علي أكمل وجه.


كل ذلك نعلمه نحن البيولوجيين وزيادة. نعلم فلسفة خلق الأجهزة الحية علي قدر ما أوتينا من علم. ولكن ما علمناه ليس باليسير إذا ما قورن بالأجيال السابقة. فقد تعلمنا من فلسفة البيولوجيا البسيطة والمعقدة أن كل شيء قد خلق بحساب على قدر علي قدر وظيفته وبيئته. وبالقياس وجدنا أن معظم الأعضاء الحيوية بالجسم تتطلب جميعها التربية والتعليم المبكر وبدقة متناهية ثم التدريب والاتقان قبل أن تقوم بـتنفيذ أي من المهام الموكلة اليها.


فإذا كان التعليم والتدريب هما سنة خلق الله في أجهزتنا البيولوجية، وإذا كان التعليم والتدريب هو أخطر مرحلة في حياة الأجهزة البيولوجية، فعلينا أن نتخيل أهمية التعليم للإنسان الذي هو نفسه ما هو الا أجهزة بيولوجية تعلمت وتدربت بدون دخل منه. فإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نتوقع مدي خطورة الخلل في تعليم الأطفال في المرحلة الأساسية وما يترتب على ذلك من تشوهات وأمراض تجعل من التلميذ صورة بلا مضمون، بل قد يتحول إلى عبء كبير على المجتمع.


فعلينا أن نكون حاسمين في قضية التعليم والتربية كما هو حال أجهزتنا التي تسكن اجسامنا قبل وبعد الولادة. فلنتعلم من خلق الله فينا. فلنأخذ بجميع الأسباب التي تجعل التعليم في الصغر هو أكبر مهمة تغلبت عليها مصر في العصر الحديث. وبالطبع نحن قادرون علي عودة التعليم والتربية إلى مدارسنا وحتى كتاتيبنا وباللغة العربية كلغة أولي وإلى العربية الموازية للتعليم، بل ليكون التعليم لتأصيل التربية والتربية أساس التعليم.


انتهي العام الدراسي ٢٠٢٢ بحله ومره، وأتمني أن يكون العام الدراسي ٣٠٢٣ هو عام التربية والتعليم بكل ما تحمله الكلمة من معني. وأتمني أن توزع استبيانات لمشاركة أولياء الأمور والطلاب والمدرسين والخبراء في خطة عمل الوزارة في المرحلة القادمة. علي أن تكون الردود على الاستبيانات الزامية. لدي أمل كبير في عودة التربية والتعليم قبل التدريب وتنفيذ المهام.


وكأستاذ جامعي يحمل على كتفيه أكثر من 40 سنة خبرة في التعليم الجامعي، واكتسب خبرات هائلة ومتنوعة من دول مختلفة خاصة اليابان وأمريكا فضلا عن مصر، أري أن شعار "التربية من أجل التعليم والتعليم من أجل التربية" هو أفضل وأقوي الطرق لإعداد جيل متعلم وقادر على توظيف ما تعلمه بحكمة وحنكة وذكاء وليس بخبث أو فهلوة. وأنا مؤمن تماما أن قليل من العلم وكثير من التربية في المرحلة الأساسية أفضل بمراحل للنشيء عن كثير من العلم وقليل من التربية. والدليل على ذلك، أن كم العلوم التي يحصل عليها الطالب هي الأكثر على مستوي العالم، ولكن هذا الكم - الذي اكتسبه بعيدا عن التربية المدرسية وإعلام غير واعي وفنون متدنية من أفلام ومسلسلات وعالم مفتوح على مصراعيه للطالح قبل الصالح - جعل من الطالب ربوتا تعليميا لا يمتلك أصول التربية عند تعامله في المجتمع مما جعل الاجرام والتحرش والتنمر وعدم المسئولية أمورا عادية. فماذا يفيد هنا الكم إذا كان الكيف معطل.


وكلمة أخيرة أقول، علينا أن نعل المدارس حضانات للتربية بمفاهيم علمية ولتكن الجامعات هي مكان العلم والتخصص لمن أراد واستطاع. ولنتعلم من الطبيعة ومن خلق الله في أنفسنا كما أمرنا الله "وَفِىٓ أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" الذاريات 21. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴿12﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴿13﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿14﴾ من سورة المؤمنون.


آية فيها كل التدبر الذي يجعلنا نقر بأن الله ذاته خلقنا في مراحل متدرجة حتى المرحلة الأخيرة التي يصبح الانسان في أحسن صورة يستطيع بها القيام بوظائفه. وهكذا لا بد أن يكون حال التعليم في مصر، تربية مع تعليم، ثم تعليم مع تربية ،ثم تعليم ثم علم وتدريب ثم تنفيذ وجودة واتقان. أما ان نجعل طفل في السنة الرابعة في المحلة الأساسية عمره لا يزيد عن 10 سنوات يواجه كم لا يحتاجه من العلوم فهذا ضد سنة الله في خلقه.


نعم مصر بالتربية والتعليم تستطيع.

مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg

سلم الناشر والمنشور،، نعم مصر بالتربية والتعليم تستطيع،، عودة حميدة للأجيال الشامخة صانعي الحضارات، للكاتب الجليل كل الشكر والتقدير 🇪🇬👍🇪🇬

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة