لم يكن يُستضاف في حلقات البودكاست إلّا أشارفِ الناس، وأحاسنهم أخلاقاً، وأكثرهم ثقافةً، وأوسعهم إطلاعاً، وأزودهم عِلماً.

قبل بِضع سَنوات كنتُ أحضرُ حلقات (البودكاست)، آنذاك كان ثُلّة قليلة جداً من الناس يعرفون ما البودكاست، وأتكلمُ هنا عن البودكاست العربي، كنتُ أُمضي الساعات الطوال خلف الشاشة أستمع لحواراتٍ شيّقة ومعقّدة، واقعية وإجتماعية، علمية وسياسية، دينية وأدبيّة، كنتُ عندما أتحدّث لبعض الناس عنها يقولون: (ماهذا البودكاست؟، أراهُ طويلاً ومملاً جداً، وينقصني الصبر ومكابدة النفس لأجلس خلف شاشة ثلاث ساعات أو ساعتين، أو حتّى ساعة)، يتكلمُ ساخراً ..


فقد كان يرى أن حضوره مثل هذه الحوارات مكابدةً للنفس وتعذبياً لها، أو نوعاً من الأعمال الشاقّة في سجن كارانديرو في البرازيل، بينما كنتُ أراها مُتعةً وتثقيفاً .. مثل هؤلاء اليوم يَنظرون إلى لقاءات وبثوث هابطة بالساعات دون كللٍ أو مَلل، بل بمتعة كبيرة.


آنذاك لم يكن يُستضاف في حلقات البودكاست إلّا أشارفِ الناس، وأحاسنهم أخلاقاً، وأكثرهم ثقافةً، وأوسعهم إطلاعاً، وأزودهم عِلماً، فقد كان يُستضاف أصحاب الشهادات الأكادمية العالية، والأدباء المؤلفون، والعلماء القديرون، والرِجال الحاذقون. وليس ذلك ببعيدٍ عن هذا الزمان، فكما ذكرت، قد كان ذلك قبلَ سَنواتٍ قِلال.


أمّا اليوم؟ ..

استحوذ التافهون والتافهات، على هذا الشيء الجميل الذي اسمهُ (بودكاست) لا أُخفيكم، صِرتُ عندما أذكر هذه الكلمة يَطرقُ في مُخيلتي أصحاب السخافات الذين سيطروا عليه، وأشبعوا القنوات بالعنوانين الرنّانة الذي تشحذُ أنظار وتُطرِبُ أسماع السُذّج والحمقى. فقد أصبحَ المُستضيفون والمُستضافون أسوأ من بعضهم، فالتافه الأول يَسأل الأسئلة الساقطة، والجَهولُ الثاني يرّد بالأجوبة الركيكة الغير المدروسة.

أيُّ دراسة؟ وهل المواضيع المطروحة في هذه اللقاءات تحتاج إلى دراسةٍ أو إلى تحضير ؟ .. مثل هؤلاء اليوم يَنظرون إلى لقاءات وبثوث هابطة بالساعات دون كللٍ أو مَلل، بل بمتعةٍ كبيرة.


ورُبَّ فاكهةٍ تُغريكَ قِشرتُها

‏واللبُّ يرتعُ فيهِ الدُّودُ والعفَنُ


هكذا الجهل، وحُب الدنيا والظهور، ينتشرون في المجتمع كالنار في الهشيم، كالأوبئة في جسوم البشر، وكسرعة ظهور العاهرة في عصرنا ..

لم يَعد للناسِ أهدافاً تَستحق النظر، الهدف الأول الموضوع نَصب العيون إمّا يكونُ الشُهرة، أو كنز المال، أو الاثنين مَعاً.

أهدافاً تجاريةً بحتة، وحتّى الطالب في كلّية الطب، أو في كليّة الحقوق، أو في كلية الهندسة، وغيرهم، أصبحت إختيارات هذه التخصصات وغيرها من باب حُب الظهور، والفخر، وجمع الأموال والتباهي، فلم يَعد طلبُ العلمِ حُبّاً بالعلم، أو لإهدافٍ إنسانية، أو لِقيمٍ دينية، أو لمبادئٍ نشأنا عليها، إلّا من رحمَ الله ..


ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ

وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ


وأخيراً أيّها التافهون، يا أصحاب العقول الواهية، ويا عديمي الأهداف السامية، يا أولي القُشور الداهية، يا غافلينَ عن مُستقبلَ جَسامةِ شباب أمُتنا الواعية، أهل العقول المستقيمة, والفِطر السليمة. يا ذوي الألباب المُنتنة، ويا أرباب منصّات التواصل القذرة، يا ناشري التفاهة، ويا مُذيعي الدياثة، يا مُظهري أسافل الأمور وغاضّي الطرف عن أكابرها، يا مُروّجي أفكار الغرب الهابطة، يا مُظهري المفاتنَ من الإناث، ويا خارمي المُروءةَ من الذكور، اهبطوا من ظهورِ الأماكنِ الجميلة التي لا تَليقَ بمثلكم، لم تُضيفوا إليها إلاّ الدنسَ والعار، ارجعوا إلى مزابلكم القذرة، وبقاعكم النتنة، وبُؤَركم الفاسدة.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات عبد العزيز جنيد

تدوينات ذات صلة