قال الحسن البصري رحمه الله : أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه.
في (معجم الأدباء) : حدث أبو هفان قال:
لم أر قط ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ فانه لم يقعبيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان حتى إنه كان يكتريدكاكين الورّاقين ويبيت فيها للنظر،
والفتح بن خاقان فانه كان يحضر لمجالسة المتوكل فإذا أراد القياملحاجة أخرج كتابا من كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حينعوده إليه حتى في الخلاء.
وإسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر فيكتاب أو يقلّب كتبا أو ينفضها.
وقد روي أن موته ـ الجاحظ ـ كان بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادتهأن يصفها قائمة كالحائط، محيطة به، وهو جالس إِليها، وكان عليلاًفسقطت عليه فقتلته، في محرم هذه السنة.
قال المبّرد: رأيت الجاحظ يكتب شيئاً، فتبسّم. فقلت: ما يضحكك؟ فقال: إذا لم يكن القرطاس صافياً، والمداد نامياً، والعلم مواتياً، والقلب خالياً،فلا عليك أن تكون غائباً.
ومنها ما حكاهُ ابن حميد عند ترجمته لعبد الوهاب بن محمد بن عبدالله التميمي في هوسه وانهماكه بالعلم في
( السحب الوابلة ) قال :
وكان ذا حرص واجتهاد إلى الغاية، قليل الخروج من المدرسة حتّى إنّهاتّفق له سبع سنين لم يخرج منها إلّا لصلاة الجمعة وأمّا الجماعة ففيمسجدها، والأكل يأتي له من بيت والده مع الطّلبة، وأكبّ على تحصيلالعلم وإدمان المطالعة والمراجعة والمذاكرة والمباحثة ليلا ونهارا، لمتنصرف همّته إلى غيره أصلا، حتّى إنّه لمّا تزوّج بأمر والده وإلزامه أخذليلة الدّخول معه المحفظة فلمّا انصرف عنه النّاس نزّل السّراج وقعديطالع الدّروس الّتي يريد أن يقرأها في غد، ويقدّر في نفسه أنّه بعدإتمام المطالعة يباشر أهله فاستغرق في المطالعة إلى أن أذّن الصّبح،فتوضّأ وخرج للصّلاة، وحضر دروس والده من أوّلها، ولم يعلم والده بذلكلكونه لا يبصر، ولمّا فرغ من الدّروس أتى إليه ولده وسلّم عليه فبارك لهوبارك له الحاضرون، وفي الليلة الثّانية فعل كفعله بالأمس ولم يقرب أهلهمن غير قصد للتّرك، لكن لاشتغاله بالمطالعة فيقول في نفسه: أطالعالدّرس ثمّ ألتفت إلى الأهل، فيستغرق إلى أن يصبح، فأخبرت المرأةوليّها بذلك، فذهب وأخبر والده بالقصّة، فدعاه والده وعاتبه وأخذ منهالمحفظة، وأكّد عليه بالإقبال عليها، وكان رحمه الله كثير التّحرير، بديعالتّقرير، سديد الكتابة، قلّ أن يقرأ كتابا أو يطالعه إلّا ويكتب عليه أبحاثاعجيبة واستدراكات غريبة، وفوائد لطيفة، فمنها القليل ومنها الكثير، فمنأكثر ما رأيته كتب عليه «شرح المنتهى» للشّيخ منصور ملأ حواشيهبخطّه الضّعيف المنوّر، فلم يدع فيه محلا فارغا بحيث إنّي جرّدتها فيمجلّد، وضممت إليها ما تيسّر من غيرها، وفيها فوائد بديعة، لا توجد فيكتاب. انتهى كلامه.
وهذا أمرٌ عجيب تتعجبُ منهُ نفوسُ الأكابر من العلماء المشتغلين بالعلم، فضلاً عن أمثالنا من الأصاغر.
وفي أخبار حب العلماء للعلم، وحفظ وقتهم له، مايرفع من الهمم الهابطة، ويشحذ النفوس الفاترة.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله :
كنا بمصر سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرقة،
كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ، وبالليل: النسخ والمقابلة.
قال: فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخاً، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقناسمكة أعجبتنا، فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت، حضر وقت مجلس،فلم يمكنا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثةأيام، وكاد أن يتغير، فأكلناه نيئاً، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه.
ثم قال: لا يُستطاع العلم براحة الجسد.
ومن هذه الأخبار المسطورة في بطون الكتب كثير.
والوقت أنفس ما عُنيتَ بحفظهِ
وأراهُ أسهل ما عليك يضيعُ
قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد خاطره :
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظةفي غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته فيالخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل.
قال السخاوي في (الضوء اللامع) في ترجمة أحمد بن سليمان بن نَصْرالله البُلْقاسي ثم القاهري الشافعي المتوفى في ريعان شبابه : (وكانإمامًا علاَّمة قوي الحافظةِ حسنَ الفاهمة، مُشاركًا في فنونٍ، طلْقَاللسان، محبًّا في العلم والمذاكرة والمباحثة، غير مُنفك عن التحصيل،بحيث إنه كان يُطالع في مشيه، ويُقرىء القراءات في حال أكله خوفًا منضياع وقته في غيره، أُعجوبة في هذا المعنى، لا أعلمُ في وقته من يُوازيهفيه، طارحًا للتكلُّف، كثير التواضع مع الفقراء، سهمًا على غيرهم، سريعالقراءة جدًّا)
قال الحسن البصري رحمه الله :
أدركت أقواماً كل أحدهم أشح على عمره منه على درهمه.
وفي ( السير ) للذهبي :
قَالَ مُوْسَى بنُ إِسْمَاعِيْلَ رحمه الله :
لَوْ قُلْتُ لَكُم: إِنِّيْ مَا رَأَيتُ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ ضَاحِكاً، لَصَدَقْتُ، كَانَمَشْغُوْلاً، إِمَّا أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَقْرَأَ، أَوْ يُسبِّحَ، أَوْ يُصَلِّيَ، قَدْ قَسَّمَ النَّهَارَعَلَى ذَلِكَ.
وقال المعافى النَّهْرَواني في (الجليس الصالح):
(وحكى لي بعض بني الفرات، عن رجلٍ منهم أو من غيرهم: أنه كانبحضرة أبي جعفر الطبري رحمه الله قبل موته، وتوفي بعد ساعة أو أقلّمنها، فذُكِرَ له هذا الدعاء، عن جعفر بن محمد -عليهما السلام- فاستدعى محبرة وصحيفةً فكتبها، فقيل له: أفي هذه الحال؟! فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلمِ حتى يموت).
وقيلَ أنه قال : لأن ألقى الله وأنا عالم بالمسألة أحسن من ألقاه وأناجاهل به.
و هذا العلامة المتفنِّن، صاحب التصانيف، أبو الفرج ابن الجوزي يقرأفي آخر عمره وهو في (الثمانين) القراءات العشر على ابن الباقلاني، معابنه يوسف.
واللهُ المستعان.
لَا تَعْرِضَنَّ بِذِكْرِنَا فِي ذِكْرِهِمْ
لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَى كَالْمُقْعَدِ
أين الجبالُ من التلالِ أو الربى
أين القويُّ من الضعيفِ القُعْدَدِ
قال بعض السلف : لاينال العبد العلم حتّى يموت ولايدري جيرانه عنه.
أيّ : لكثرة انشغاله بالعلم.
وكان عبد الرحمن بن أبي حاتم يقرأ على أبيه، وأبيه في الخلاء.
وكان يُقرأ على البلقاسي وهو يتناول الطعام.
قال ابن عقيل رحمه الله :
(إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عنمذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة،
أعملت فكري في حالة راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر ليما أسطره)
وقال أيضا:
(أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيةبالماء على الخبز،
لأجل مابينهما من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة لمأدركها فيه)
وقد حفظَ شيخ شيوخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله حال وضوءه ( ألفية العراقي ) فكان هناك من يعرض عليه المتن في أوقات وضوءه، فأتم حفظه.
وقد سمعتها من شيخنا صالح العصيمي.
وذلك أنّ شهوتهم للعلم كانت عظيمة فكانت تستغرق أوقاتهم، مع ضعف العدّة ومزيد الحاجة والعوز وفقدان الكتب.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :
العلم لا يعدلهُ شيء لِمن صحّت نيّته.
اللهم ارزقنا الإخلاص في العمل، واجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلهالوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
آمين ياارب🤍🕊