“أنا وخطيئةُ غيري وخيمة وبعضُ الاغتراب وكلُّ الشتات”.


هكذا أجابتني ليلى الموصلاويّة حين سألتها عمّن نزحَ معها. لا أعرفُ يومها كيف بكيتُ أمامها بينما كانت تجلس بجمود العالم أجمع أمامي. أكملت قائلةً بصوتٍ خافت: كنتُ أخاف العتمة والمقابر والسيارات؛ لكن أظنُ أنني أصبحت ثلاثينية لا تخافُ شيئاً، وربما سأدخلُ الأربعين ونحن نلاحق القمر في أرضٍ خالية.


لم أستطع فهم شيءٍ من حديثها، إلى أن وضعت يدها على بطنها وقالت: أردتُ إخبارك أننّا إثنان، لكن ماذا كنت ستُسجلينه في القائمة؟ ابنُ ليلى أم مجهولِ نسب؟

كان الشارع بأكمله يحترق وروحي تحترق وأمي مخضبةٌ بدمائها على الأرض وبجانبها نام أبي بلا نَفَس، يشهدُ الله أنني اختبأت تحت الطاولة بينما كانت الدماء تسيلُ من حولي، لا أعلم ربما كان دمُ أخي الكبير أو ابنه ذو العاشرة؛ فقد أطلقوا عليهما وابلاً من الرصاص… لكن لا يهُم فالناس يقولون أنَّ الروح لا تشعر بالألم لحظة خروجها.


ما زلت أسأل نفسي كيف رآني يومها مع أنَّ دشداشتي كانت حمراء كلونِ بلاطِ دارنا الموشح بالدماء، لكنّه رآني… عندما كنتُ في الخامسةَ من عمري رأيتُ ضبعاً بإحدى بساتيننا، لكن عيناه ذاك اليوم أخافتاني أكثر، أقسمُ أننّي كدتُ أشعر بشرارهما يلامسني.


كانت الحارة خراب وبيتي خراب وعائلتي نائمة على الأرض للأبد؛ بينما أنا فقد كنتُ أنتظر لحظة إعدامي، أتعلمينَ شيئاً... كانت تلك الثانية طويلةً جداً، أطولُ من غزو الكويت وأطول من الاجتياح الأمريكي، كانت أطول من أيامِ عزاء أخي الثلاثة بل أطول من عمري كله. لا أدري ماذا أفعل هنا كان يجدر بذاك الوحش قتلي، أَيُهِّمُ كثيراً أن أموتَ ألف مرةٍ باليوم؟ حلفتكِ بالله أجيبيني. يقولون أنَّ الموصل غدت منكوبةً وأنَّ بيتنا مُسِحَ من الذاكرة، أُريدُ أن أخبرك سرًا، أعطيتُهم اسم عائلةٍ أخرى وقلتُ أنَّني فتاة عشرينية لمسؤول التسجيل، أمّا هذا الذي ببطني فقد حاولتُ قتله ألف مرة.

أثناء حديثها ملأَ صوتُ آذان العصرِ المكان، رأيتها تُتمتم وتنظر لأعلى... كانت ملامحُها غريبةً جداً وكأن روحها تذهب للخالق وتعود.

-ماذا تفعلين؟

-أدعو ربي أن يختارني للقاء أهلي وأن ينتقم من كلِ الطغاة، لا أستطيع أن أدعو للعراقِ بأكمله تكفيني مصيبتي.

-وذاكَ الحقير؟

-أدعو عليه كُل ثانية؛ أنا متأكدةٌ أنه يذبح إحدى النساء أو يشنق طفلاً في السابعة هذه اللحظة، أكرههُ وأكره كل ما تركه بداخلي وكل ما أخذه مني. ورائي خراب وتحتي خراب وأمامي خراب وفي أحشائي ابنُ ليلى؛ لكننّي ما زلتُ عذراء حتى لو ركلني مئة مرة واشتهيتُ المنَّ والسلوى وبرتقال ديالى كل يوم. خيمةُ ليلى اسمٌ ملفت يستحق دخول التاريخ كملجأ العامرية، أخبريهم أنَّ ليلى ماتت كل يوم وأنها لم تشعر ببردِ شباط مطلقاً، أخبريهم أنها كانت تخاف العتمة والمقابر والسيارات والمُوصل، وأخبريهم أنها أحبَّت سالم بشدة وكانت تعشق عبير الأقحوان والجوري، لكنها لن تشهد الربيع هذه السنة.


يومها كرِهتُ نفسي وعملي وضعفي والعالم بأكمله، أنا التي كسرتني خيانةُ زوجي لي وبكيت سنتين متواصلتين حتى سئِمت ساحاتُ بغداد مني وظننتُ أننّي أريد الموت، ألتقي بليلى التي خانها العالم بأكمله في زمهرير إحدى خيمات النزوح العراقيّة.


رحلت ليلى بعد أسبوعٍ واحدٍ من لقائي بها، قال الطبيبُ أن قلبها توقَّف فجأةً ومات الجنين بعد دقائق. لم أُصدم أبداً حينها؛ فكيف يعيش قلبٌ منهك مات ألف مرة قبل لقاءِ ربّه! لأول مرة في حياتي أشعرُ بالطمأنينة عند وفاة أحدهم... رحلت ليلى وبقِيت الخيمة، وكما وعدتُها تم تسجيلها كعذراء عشرينية في شهادةِ الوفاة.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

يارب ارحم ليلى و نعمها بجناتك .. كلما سمعت قصة جديدة عن فترة اغتصاب حدباءنا ظننت انها الاقسى ولكني اتفاجأ دوما بالقصة التي تليها .. الحمدلله الذي نجاني و أهلي من بداية تلك الفترة . سلمت اناملكِ

إقرأ المزيد من تدوينات شيماء التميمي

تدوينات ذات صلة