-كان يزورني كل ليلة، كنتُ أشعر به يتنفس بجانبي، يقف فوق رأسي، يحاوطني، يتحدّاني، ثم يرحل لغرفةٍ أخرى-
تضعُ مفاتيحك على الطاولة، فتجدها تتدلدلُ على حوض المغسلة. تشاهدُ القناة السابعة، فتجد التلفاز يبثُ فجأةً القناة الخامسة. تحبُ الطهي؟ وهو يحب اللعب بالمقادير أيضًا…هذا ما كان يفعله شبحُ مونمارتر مع كل من يقطن شقته الباريسية القديمة.
وها أنا، أفعلها من جديد! لا يهم، قرار خاطئ جديد لا يهم… فلدَّي على الرف ما يكفيني لأنافس به في موسوعة غينيس. لقد كان ذلك الحي اختيارًا صائبًا بالنسبة لرسامٍ مثلي؛ إطلالة خلّابة، حدائق خضراء تحيطُ بي من جميع الجهات، مقهى رخيص قريب، وإيجار أستطيع تحملّه. لقد كان هذا المنزل جولة دومينو رابحة بالنسبة لي؛ إلى أن تعرَّفت على شريكي في السكن!
لقد كانت الأمور تسير على نحوٍ جيد – لا داعي لأخبرك بأنَّ الجيد بالنسبة لي هو سيء بالنسبة لك- أظنًّ أن سمسار العقارات الماكر كان يصلّي لتكون الأمور جيدةً معي كل ليلة. لم تهمُّني كثيرًا نظرات الجيران الغريبة تجاهي، فقد ظننتُ أنها بسبب الندبة اللعينة التي تقبع على وجهي منذ عشر سنوات، ولكن اتضَّح فيما بعد أنَّ مشكلة جيراني معي كانت أكبر من ندبتي الغريبة. يا ليتهم يتعلَّمون الحديث كما يتقنون التحديق.
يتهمني الناس بأنَّني شخص لا أبالي، متعجرف قليلًا، كاذب كثيرًا، غريب إلى حد الجنون، ولكنَّني لم أكذب هذه المرَّة؛ فقد عشتُ مع شبح مونمارتر لنصفِ عام في نفس الشقة، وأُقسم أنَّني تقاسمتها معه وأنا بكامل وعيي… الناسُ الطبيعيون تغيِّرهم الأيام، الخيانة، التجربة، المأساة، الفكرة؛ أمّا أنا فقد غيَّرني شبح قُتل في شقته قبل أربعين عامًا!
في البداية، لم أُعِر انتباهًا كثيرًا لصوت الطرق المتكرر في الليل، ولا حتى لمذياعي القديم الذي انطلق لوحده الساعة الخامسة صباحًا في إحدى المرّات؛ لقد اعتدت التغاضي عن عدة أشياء غير منطقية في حياتي ولكن ما حصل معي كان مستوىً جديد من اللا منطق -تبًا للمنطق ولكل ما هو رتيب واعتيادي- ردّدها بداخلك كل يوم لعلَّك تتعايش مع الجنون الذي يسكنك.
لقد كان شبح مونمارتر أذكى مني قليلًا؛ يختارُ الأوقات الحرجة ليعبث مني ويتفنَّن بجعلي أشك بعقلي الذي أمضى نصف قرنٍ في الخدمة. كان يزورني كل ليلة، كنتُ أشعر به يتنفس بجانبي، يقف فوق رأسي، يحاوطني، يتحدّاني، ثم يرحل لغرفةٍ أخرى. كان لديه أسلوبه الخاص للتعامل مع كل رقعةٍ من ذاك المنزل؛ فالمطبخ مكان الطرق على الأواني، والحمام خاص باللعب بصنابير المياه، والشرفة التي تُنافس برج إيفل بقِدمها مكانه المفضلة للعبث بزهور التوليب التي زرعتها السيدة التي سكنت قبلي، أمّا غرفتي فكانت للتجوال فقط. لقد كان شبح مونمارتر أكثر تنظيمًا مني!
أمضيت عدة أسابيع على هذه الحال، أُتناسى ما يحصل في الليل لأعيش النهار… ولكن لم يعجبه ذلك. تخيّل معي أن ترسم لوحةً لامرأة حسناء، وعندما تتركها لتحضر كوبًا من الماء تتفاجأ عند عودتك بأنها قد أصبحت رجلًا بلحية وشارب. أو تخيّل أن تطهو الحساء وتضع قليلًا من الملح، ولكنك تتفاجأ بأنَّ أحدهم وضع الكثير من السكر من بعدك، لتتحوّل وجبة العشاء لتحلية مقيتة. تخيّل أن تشاهد إحدى المسرحيات الكوميدية لوحدك في منتصف الليل، فتسمع أحدهم يقهقه بجانبك. هكذا هو شبح مونمارتر؛ ذكي، مرِح، مُخيف، مُختلف، غير تقليدي… يُشبهني قليلًا، ويُخيفني كثيرًا.
بعد ازدياد معاناتي، قرَّرت أن أسأل سكان الحي عن تاريخ هذه الشقة. كان هنالك شعورًا بداخلي يمنعني من مغادرتها قبل معرفة الحقيقة. ادعّى بعض الجيران عدم وجود أي شيء غير اعتيادي عنها، أمَّا النصف الآخر فقد فاجأني بكل ما هو غير اعتيادي وغير منطقي. العديد من المستأجرين، الكثير من الحوادث المخيفة، الخوف، ثم الهروب، ثم اللا عودة… كل هذا حدث بعد جريمة قتل شخص يدعى "جون بيراد" في إحدى مساءات إبريل عام 1977. لقد قتله أحد اللصوص بعد أن أخذ جميع أمواله ومقتنياته الثمينة، ولم تستطع الشرطة الفرنسية إيجاد القاتل حتى اليوم نظرًا لعدم وجود أدلةٍ كافية.
شدَّتني هذه الحكاية كثيرًا؛ فوجدت نفسي تلك الليلة أتنقَّلُ بين صفحات محركات البحث وأطبع كل المعلومات والتقارير المنشورة في الصُحف والتي تخص "جون بيراد" لأعيد قراءتها -هذا ما يحدث عندما يلتقي الفضول بالوحدة- أمضيت الليل بأكمله وأنا أقرأ وأُحلّل، لقد حفظت وجه جون بيراد كما أحفظ وجهي. شعرت أنني أتواصل مع شبح مونمارتر بطريقةٍ ما، ولكنه كان صامتًا ومؤدبًا تلك الليلة على غير عادته. ليلتها نمتُ كطفلٍ في السادسة، لقد كانت أول ليلة لي أنام فيها بسلام في تلك الشقة. حين استيقظت، وجدت جميع الأوراق التي قمت بطباعتها متناثرةً من حولي ومكتوب عليها بالخط الأحمر "C'est pas vrai" أي "هذا غير صحيح". بقيت طِوال اليوم في المنزل وصفحات جريمة جون بيراد تُحيط بي، انتظرته… انتظرته ليخبرني حقيقة ما حدث له، ليرتاح، ليترك هذا العالم بلا ألم…لقد كانت تلك أول مرة أنتظر فيها شبح مونمارتر بشجاعةٍ وتوقٍ شديد.
غابَ عن شقتي، أو شقته بالأحرى، لمدة أسبوعٍ كامل. كنت في ذاك الوقت أبحثُ عن منزلٍ جديد، ولكنني لم أنوي الرحيل قبل معرفة الحقيقة. انتظرته حتى نفذ صبري، فوجدتني أفاوض شبحًا قُتِل قبل أربعين عامًا. أحضرت لوحةً كبيرة ووضعتها في نصف غرفة المعيشة، ثم كتبت عليها "أخبرني الحقيقة، سأساعدك… أعدك بذلك يا جون". شعرتُ بقدومه، سمعت لوحة الألوان وهي تهتز، رأيتُ انعكاس ظلٍ على الستائر، ولكنه لم يكتب شيئًا على اللوحة.
حان وقت الخطة الثانية، تذكَّرت أنَّ صديقي من أيام الجامعة يعمل محقّقًا في إحدى أقسام شرطة باريس، فاستضفته في منزلي وأخبرته قصة الجريمة التي حصلت حيثُ نجلس. ولأنَّني أعرفه تمام المعرفة، نظرتُ لعينه كطاووسٍ مغتَّر قائلًا: لكنها قُيّدت ضد مجهول ومن المستحيل حلَّها، لا يوجد أي دليل يا صديقي. سكتَ لحظتها، ثم تابع حديثه المعتاد عن النساء والسهر. ولكن خطتي نجحت! عرفتُ ذلك. لم أسمع منه شيئًا ليومين، إلى أن هاتفني ليبلغني عن فتح ملف القضية من جديد. فقزتُ فرحًا فشعرت بشيءٍ يقفز بجانبي أيضًا، عاد جون، عاد!
تلك الليلة، قرَّرت العدول عن فكرة الرحيل، ونويتُ التعايش مع شبح مونمارتر. أصبحتُ أشاهد المسرحيات المُضحكة كل ليلة وأشعر بالارتياح عندما أسمعه يضحك بجانبي، قمت بالتبديل بين حافظات الملح والسكر حتى لا يعبث بأطباقي، وتركتُ له لوحاتي ليقوم بتخريبها كما يشاء.
بعد عدة أسابيع، أرسل لي صديقي المحقّق رسالةً مفادها أنهم استطاعوا إيجاد القاتل وقاموا بنشر الخبر على الإنترنت وفي الصحف المحلية. هرعت لأقرأ الخبر على حاسوبي المحمول، والدم يكاد يتجمد في عروقي، لقد كانت أكثر مرة أشعر فيها بخفة وزني وثُقل قلبي الذي كاد أن يخترقني… كل ما كان عليّ فعله هو كتابة "جريمة" في محرك البحث، لأقرأ الخبر الصاعق أمامي:
"إلقاء القبض على شخص قتل أخيه في مونمارتر قبل 40 عامًا، بعد أن قُيّدت الجريمة ضد مجهول لعدم
وجود أدلةٍ كافية."
لقد اعترف أخاه الستينيّ بجريمته بعد استدعائه للتحقيق من جديد، ليتبيّن أنه هو اللص والقاتل في آنٍ واحد.
أمضيتُ الليل بأكمله وأنا على الشرفة، أبكي بلا انقطاع بينما أشاهد أضواء باريس السخيفة. نمتُ ليلتها على ظهري… بدون غطاء، بدون خوف، بدون أي شعورٍ بالمسؤولية؛ لقد كنت خفيفًا جدًا كورقة. حينَ استيقظت وجدت إحدى لوحاتي قد كُتِب عليها:
شكرًا لك! لم أستطع إخبارك بأنَّه أخي؛ فقد علَّمتني أمي أن أبقى إلى جانبه دائمًا. ولكنني كنت أتألم، أتألم كثيرًا. وداعًا يا صديقي، لقد ارتحت الآن…
جون بيراد
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
القصة رائعة جدا .. مبدعة بكل معنى الكلمة