جمعتُ هذه المرة كل ما أحب معاً، من رسمٍ وشعر ٍوأدب... فكانت "عن الهيام كما كان"


يُحكى أنَّ فتاةً من إحدى قبائلِ العرب الكبرى مرضت مرضًا شديدًا في إحدى الأيام؛ فاستقر في جسدها الضعف والوهن، وأصبح وجهها الذي كان مضربًا للمثل شاحبًا كصخور الصحاري، لا لون لهُ ولا حياةَ فيه. وأصبحت قليلة الكلام والطعام، تنام نهارًا وتنوح والناس نيام.


واستمرت على هذه الحال لأسابيع عدة، لم يُعرف لها داء ولم ينفع معها دواء. وانتشرت الأقاويل بين أفراد قبيلتها حتى وصلت للقبائل المجاورة، فقيل أنها كانت تتجول لوحدها في إحدى الليالي ورأت أمامها قبيلةً من الجن يحتفلون في وسط الصحراء فاستقر الخوف في جسدها وضاع من هول المشهد عقلها، وقيل عنها أيضًا أنها تعرضت لقرصة إحدى حشرات الصحراء النادرة التي تُفقد الجسد عافيته وتورث فيه الحزن، أمَّا البعض الآخر فقال أنَّ إحدى عرّافات قبيلتها صنعت لها سحرًا بسبب جمالها الأخّاذ الذي كلّما كبرت تضاعف وزاد. وبالرغم من تفاوت الإشاعات والأقاويل إلّا أنها الوحيدة التي كانت تعرف سبب مرضها الذي لم يعرف له اسمٌ ولا علاج.


وفي إحدى الليالي كحَّلت عينيها وخرجت هائمةً على وجهها تحمل معها سراجًا، ثم ابتعدت قليلًا عن مساكن قبيلتها وجلست على الأرض بأقدامٍ حافية، وقبل أن تشرق الشمس بقليل، أمسكت عصاةً كانت تحملها معها وكتبت على الرمال:


أبعدوه عني فلم أعد أقوى مرارةُ الشوق ولوعةُ النجوى

حبيبي إن غدا لفؤادي كاسرٍ كسرتُ الفؤاد وطلبتُ المثوى


وأثناء عودتها مع بروز الشمس، صهل أحدُ الأحصنة فاستيقظ على صوت صهيله الفتى الذي أحبته. وحين رأى طرف ثوبها وهي تدخل الخيمة عرف أنها هي، فتتبَّع آثار أقدامها حتى وصل المنطقة التي كانت فيها وقرأ ما كتبت. حينها عرفَ السرَّ وراء ما حدث معها، فقد كان هو الداء الذي لم يُعرف له اسمٌ ولا علاج. فكتب لها الرد تحت أبياتها، ولكن لسوء حظه؛ زحفَ أحدُ الثعابين فوق البيتِ الأخير الذي فيه حقيقة ما حصل، ولم يتبَّقَ لها سوى أول بيتين. فقرأت:


أخبروها أنني على البعد لستُ ناوياً وإن غارت علي مع قبيلتها ثلاثُ قبائلِ

فيا ليتها حين نظرت إلي أبصرت وعرفت أن وقفتي ليست بوقفةِ مغازلِ



فبكَت حتى اختلطت الرمالُ بدمعها، وتركت له بيتين كتبتهما على صخرة تواجدت هناك بقلمٍ كحلٍ كان في جيبِ ثوبها، فوجد:

وكيف للعيونِ التي تُصيبُ بسهامها أن تُخطأك وتُصب نفسها بسهمها؟

فيا ليت عيني التي ناظرتك اقتلعتُها من محجرِها قبل أن رأتك أمامها تخونُ


وحين عاد لنفس المكان بعدها، ظنَّها قرأت الأبيات جميعها ولم تصدقه. فحفَرَ لها على نفس الصخرة بيتًا واحدًا وانتظر أن تأتي فجر اليوم التالي لتقرأه، فكان لها منه:


كيف لمن هامَ بالأصيلةِ أن ينساها وكيف للأصيلِ أن يخون وقت الأصيل


ولكنها غابت ولم تعد لذلك المكان واستمرت بغيابها، حتى قيلَ أنها أصيبت بالجنون وقام والدها بإخفائها عن الناس حتى لا يعرف أبناء القبيلة بذلك. ولكنَّ الحقيقة أنَّها اعتكفت داخل خيمتها بعد أن خُطبت لأحد أقاربها، وأمضت عدة أيامٍ وهي تحاولُ إقناع أبيها بالعدول عن ذلك ولكنه رفض، فقد كانت سليمة العقل والجسد، لا داءَ فيها ولا حَسد. وحين عرفت أنها سترتحل مع زوجها لإحدى بلاد الشام القريبة، عادت لذات المكان وكتبت على الصخرة التي شابهتها جمودًا الأبيات التالية:


إني تركتُ لك الديارَ فإن رأيتني اعلم بأنَّ طيفي في الديارِ يجولُ

وإن زادت على غربتي غربةً أحبُّ إلي من ديارٍ لا تنصفُ القتيلُ



وفي يوم رحيلها، تَبِعَ قافلتها يُقبل الرمل وينوح. وصارَ كل ليلة يذهب للمكان الذي كانت تهرب إليه ليبكي، حتى هزل جسده وخارت قواه، وصار يهذي باسمها كل ليلة ويحاول البحث عنها، فيغيب شهورًا ثم يعود. وحين اشتد مرضه وعرفت عائلته أنها السبب، قال:


مريضٌ بهواها وبلا قيودٍ سجينُها هربت وأخذت الترياق علانية

شبحٌ ميتٌ أنا يجول الديار نهاراً وفي الليل يخاطبُ دوراً خاوية


وبعد عدة أعوامٍ من الألم والبحث الذي لا ينتهي، عرفَ أنها ماتت بسببِ حُمى قوية ألمَّت بها، ودُفِنت في أرضٍ بعيدةٍ وتركت بعدها طفلًا أسمته على اسمه. فسافر لها في حر الصيف وكان يذرف الدمع مع كل خطوة يقترب إليها بها، وحين وجدها ارتمى على قبرها وقال:


بحثتُ عنك في كل الشامِ وتهتُ بالصحاري بأقدامٍ حافية

وتركتُ لكِ عند كل بيتٍ بيتاً وأرسلتُ لكِ ألفِ حمامةٍ زاجلة

فيا ليتك يا محبوبتي عرفتِ أنّني كنت واقفاً أنصح شاكية

تلومُ الرب الكريم على رزقه فأوقفتها وكانت كلماتي ناهية

يا عشقي الراحل عني دُمتِ لفؤادي الأولى وعليه القاضية



ثم أمضى أيامًا يبكي فوق قبرها؛ حتى بدا أنَّ السماءَ أمطرت عليه دون غيره… إلى أن ماتَ ووجده الناس هناك، فدفنوه بجانبها؛ ليجتمعا بعد فراقٍ دامَ سبع سنوات.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات شيماء التميمي

تدوينات ذات صلة