"أنا وأنت قدران مختلفان وجسدان مختلفان… جسدي أنا قادرٌ على العطاء وأظنني أختار أن ينمو الحب بداخلي على أن يعيش بجانبي".


التاسعةُ والربع… آخٍ كم أكرهُ هذا الوقت! كانت آخر مرةٍ يحتضننا فيها مكان، ومن يومها علِقت روحي بها ومَضيت. كُنتُ كالطفل أنتظر الثواب أو العقاب، كان إحساسي ذاك الأسبوع غريباً جداً… كنتُ أراها كالتمثال تسقطُ عينها علي ولا تراني وأزرعُ لها الليلك ولا تبتسم. بقيتُ أسبوعاً كاملاً أطقطقُ أصابعي أمامها؛ لكنها كانت تنصت لذاك الصوت المستفز من غير أن تنطق بكلمة واحدة، بعدها أمضت السبعة أيام بإحراق السجائر وكنتُ أنا الوحيد الذي يحترق في ذلك البيت. شعرتُ أنني أتلاشى أمامها واعتراني خوف الفقدان... أورثتني جدتي إحساساً لا يخيب لذلك حاولت تأمُل بيتُ الليلك جيداً طوال الأسبوع.



جاء الصباحُ الأخير، حاولتُ قهرَ ذلك الشعور بداخلي والسيطرة قليلاً على انقباضات قلبي الغريبة، ظننتُ أن إعدادي لمائدة إفطارٍ جميلة بإمكانه إنهاء تقلُّب مزاجها العنيف. وأنا أقطف لها بعض الليلك البنفسجي من حديقتي كنتُ أهمس: "في كل مرةٍ قدَّمتك لها بادلتني هي بعشقٍ أكبر وزرعت بداخلي كل زهور العالم… أظنُّ أنَّ هذه المرة ستكون صعبة، لكن معها هي فالليلك ينجح بمهمته دائماً".


جلست أمامي ونظرت إلى عيناي مباشرةً، كنتُ خائفاً من سماع شيءٍ لا يمكنها التراجع عنه، شيئاً باستطاعته كسري وهدم سنيننا السبعة. تحرَّكت شفتاها وتحرَّك قلبي معهما، لكن وقتها لم تقل شيئا سوى: "يعيّشك جلال".


حاولتُ الخروج من البيت سريعاً؛ لم أستطع البقاء ثانيةً واحدة هناك فقد كان شعور الفقدان يتوغَّل بداخلي أكثر فأكثر، كانت التاسعة والربع. عند عودتي بحثتُ عنها في كل الغرف، المليئة منها والفارغة، بحثتُ في الشرفة وفي الحديقة وبين كل الأشجارالتي كانت تتراقص بين أغصانِها كل يوم كطفلةٍ في السادسة، لكنها لم تكن هناك مطلقاً.


جلستُ على تلك الأريكةِ البيضاء بلا حراك لساعةٍ كاملة، إلى أن وقعت عيني على ورقةٍ غريبة بجانب التلفاز القديم... "جلال حاولتُ كثيراً صدقني، لكن لم يستطع الليلك الذي تضعهُ بجانبي كل صباح أن يملأَ حياتي ولم تستطع الروايات التي تقرأها لي أن تضيف طعماً جديداً لها، ربما أخطأت فغدوتُ أنا الضحية في بيتٍ مليءٍ بالليلك وقليل الحياة… أعلمُ أنني والأكسجين في خانةٍ واحدةٍ لديك وأعلم أنَّني عالمك الوحيد، لكن ماذا أفعل! هكذا نحن البشر أو ربما معظمنا؛ فأنا أعلم أنك تكره التعميم وأعلم أنك ستتهمني بالأنانية، لكن سامحني فلن تكفيني ألف كلمة أحبك في اليوم ولن تحتويني مقطوعات تشايكوفسكي التي كنت أرقص عليها معك بحماس بينما داخلي يعتريه الجمود كتمثالٍ يوناني، ولن يقل بداخلي ذاك التوق الشديد مهما حاولت فقد بات الوقت يداهمني… كنتُ أشاهد الليلك بحديقتي يكبر ويتراقص تحت الشمس بينما نحن نصفق له فقط. أنا وأنت قدران مختلفان وجسدان مختلفان… جسدي أنا قادرٌ على العطاء وأظنني أختار أن ينمو الحب بداخلي على أن يعيش بجانبي".



لن أنسَ وقع حروفها ما حييت، تلك التي كنتُ أقرأ لها الكتب بصوتي كل ليلة تتركني بأكثر كلمات الأدب عُمقاً وتنمُّقاً، لا أنكرُ أنها كانت من أوائل جامعة دمشق لكنني أنا من جعلها تهوى كُتب الأدب. ما زلت أحمل رسالتها بجيبي حتى الآن منذ أن غادرتُ صفاقس نهاية السبعينيات، وإياكَ أن تظن أنني أكره الليلك فأنا ما زلت أحبهُ بجنون؛ العيب لم يكن بالليلك أبداً، بل بتلك التي أهديتها زهوره كل يوم. عشنا سوية سبعة أعوام وظننت أنني ملأتُ حياتها واكتفت بي، لكن لا يهم سيبقى الليلك أطهر منها كثيراً وسيبقى الغياب أطهر من كليهما، تركتُ الوطن لها فلتتكاثر كما تريد.


"عفواً كم الساعة ؟" ليكون ذلك أغرب جواب أتلقاهُ في حياتي… آلاف الزوار لكن شاءَ القدر أن يكونَ هو. كل ما فعلتهُ هو أنني سألتُ ذاك الثمانينيّ عن الساعة أثناء جلوسنا على نفس المقعد في حديقة تويلري. كان يدندنُ إحدى أغاني الراحل علي الرياحي فشدَّني الحنين للوطن ولم أتمالك نفسي، مع أنَّ ساعتي كانت بيدي. آلافُ الزوار لكن شاءَ القدر أن يكون هو بجانبي. بقيت صامتاً لا أدري ما أقول. فجأةً حضر صديقه من بعيد وألقى عليه التحية بالفرنسية، لكن لم يناديه جلال بل ناداه "آندريه"، لحظتها علمت كيف يكونُ الهروب وكيف يكون تراجعُ الليلك…


- ذلك اليوم عُدت هرِعاً لزوجتي الحامل وسألتُها بتردد: "أكنتِ ستبقين هنا لو كنتُ عقيماً؟".



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات شيماء التميمي

تدوينات ذات صلة