“ يا للعالمِ السخيف، سخيف لدرجة أنني تمنيت العودة إليه بعد ربع ساعة من مفارقته."
من الجليّ أنَّ من يعاندون القدر يخسرون أسماءهم، يُمسون أجساداً هامدة على الطرقات العتيقة، بلا هوية أو سبب، وكأنَّ رحلتهم على هذه الأرض كانت عبئاً عليهم. من علوٍ شاهق أو مع دوي طلقة، يريدونها أن تنتهي…فَتنتهي.
الغريب في الأمر أنني شعرتُ بالندم أثناءَ صعودي للسماء السابعة، كانت جميعُ الأرواح من حولي تطيرُ بسلام إلا روحي أنا كانت تتسلق بكلِ مشقةٍ وتعب. كانَ الجميع يتسابق بفرحٍ ليصل أولاً، أمّا أنا فقد كنتُ خائفا متردداً كمن حرق قريةً كاملةً وفرَّ مُسرعاً. كنتُ أنظر للأسفل بكل حذر، خفتُ كثيراً أن يراني أحدُ المارة بوضوحٍ كما أراه، نسيت أنَّ هذا مستحيل.
رأيتهم جميعاً يصرخون، في الحقيقة لم أستطع سماع صراخهم لكنَّ أفواههم المفتوحة كانت دليلاً واضحاً على ذلك. كان المشهدُ السفلي يبدو هادئاً جداً، هادئاً كمسرحيةٍ صامتة على مسرح المدينة الشهير. لم يعنيني كثيراً تجمهُر الناس من حولي، أذكرُ جيداً آخر مشهدٍ رأيته على ذلك الرصيف القديم لكن أكثر ما آلمني هو تلك الطفلة العائدة من المدرسة. آلمتني وقفتها المترددة أكثر من ألم انكسار ضلوعي الأربعة والعشرين، وأكثر من الأسى الذي لازمني وأنا على تلك الحافة. كانت تمسك قطعة الحلوى وتنظر إلي وكأنها تلومني وتقول: لِمَ لم يختر هذا الأحمق الانتحار في يوم العطلة؟ أيجبُ علي تذكُّر هذا المشهد طوال حياتي؟
كانَ المشهد تراجيدياً بكل ما للكلمة من معنى؛ لدرجة أنني لم أستطع الصعود أكثر. حاولت بعض الأرواح مساعدتي، كنت أنظر إليها جميعاً وأتساءل بداخلي لِمَ تشعُ نوراً أكثر مني؟
كنتُ أراقب الكرة الأرضية وأشعرُ بسخف ما فعلت، كانت تلك اللحظات كفيلةً بجعلي أدرك ما هي قيمة أن أكون آدمياً. ومع أنَّ هذا سيبدو غريباً، لكنني أمضيتُ رحلتي لأعلى وأنا أفكر بتلك الطفلة العائدة من المدرسة. لوهلة شعرتُ أنني أفسدتُ حياتها، لم أستطع إيقاف عقلي عن التفكير بها فقد كان منظرها ملفتاً بين الجموع، "يا لتلك الحزينة ستذكرُ جثتي الهامدة على الجادة 36 طوال حياتِها، سأكونُ أنا الشبح الذي يرافق مخيلتها. ستذكرني عندما تفرح وعندما تحزن، وأظنُ أنها ستعاني من الكوابيس بدءاً من الليلة... يا لحماقتي، ما ذنبها هي لترى ثلاثينياً فقدَ عقله يسقط من الطابق العاشر ساعةَ الذروة! وما ذنبُ تلك العجوز الثمانينية لأُفسد الخبز الذي تقتات منه، لا بد من أنها لعنتني في داخلها".
وبينما أنا أحدِّث نفسي بصوتٍ منخفض، سمعت صوتاً آخراً يسألني بهدوء: ما الأمر؟ تبدو مرتبكاً!
-أشعرُ بالندم أكثر من الارتباك… ما زال لدي الكثير لأفعله، لكنني لم أنتظر
-يا لك من جاهل أتعترض على حكم الإله؟
-في حقيقة الأمر، لم أمت ميتةً طبيعية
-آه لقد فهمت، لقد قابلت روحاً تشبهك في السماء الرابعة، لم تكن تشع نوراً كما نفعل وبدت لي كأنها تتسلق لأعلى أيضاً، بعدها أخبرتني أنها كانت تقودُ السيارة بسرعة جنونية حتى لا يشك أحدٌ بذلك!
-أما أنا فقد فعلت العكس تماماً. الليلة سأكون حديث كُلِّ المدينة وفي صباح الغد ستنشرُ كل الصحف خبر انتحاري على الجادة 36. طوال حياتي لم ينتبه لوجودي أحد، أما اليوم فهو يومي بكل تأكيد.
-أووه يبدو أنك لم تجد مهرباً آخر، يا لقلة الحيلة عندما تصبح عذراً بائساً، من الواضح أنك تحزن عندما تمطر السماء على ملابسك، وتنسى الزهور التي كانت ستزهر في حديقتك!
-أتقصدُ بأنني متشائم؟
-ربما، أنا لست هنا لأحكم عليك يكفينا كمُّ الأحكام الهائل الذي نتلقاه في الأرض، لكنك ضعيف، ضعيف إلى حدِّ الغباء
قالها واختفى بسرعة، وكأنني كنتُ سأعيق رحلته الأبدية!
بصراحة، تمنيت كثيراً لو أعود على قيد الحياة، كنتُ سأرضى بأن أكون حبة رملٍ على شاطئٍ في أقاصي العالم، أو حبة رمل بداخل ساعة رملية متربعة على مكتب خشبي تزوره الشمس مرةً واحدةً بالسنة.
عندما وصلتُ السماء السابعة لفتت انتباهي شجرة صفصافٍ كبيرة على ذلك التقاطع، يا لغبائي فلقد كنت أستقل المترو من هناك كل يوم ولكنني لم أنتبه يوماً لوجودها، حتى عربة الحلوى على يمين محل السمكري لم تُدهشني قط؛ ربما لو اشتريت الحلوى الملونة ببعض السنتات كل مساء عند عودتي من العمل كان سيتحسن مزاجي قليلاً! أووه كنت أستطيع تناولها ست مرات في الأسبوع، ستُّ مرات أي أربعة وعشرون مرة في الشهر. يا للعالمِ السخيف، سخيف لدرجة أنني تمنيت العودة إليه بعد ربع ساعة من مفارقته.
أظنني كنت سأمر من ذلك الشارع وأقابل الطفلة الصغيرة نفسها. عيونُ الأطفال تختلف عنا، إنهم يرون الأمل في كل مكان، لكنني أظُن أنها فقدته عندما رأتني ممدداً على قارعة الطريق، أخاف أن تصبح في العشرين وتفعل ما فعلت. يا للغرابة، كنتُ قد وصلت السماء الرابعة وما زال ضميري حياً.
ربما لو عشت حياةً طبيعية كنت سأراها غداً بكل تأكيد، أظنها كانت ستبتسم لي بكل براءة، وبعدها سأتأمل شجرة الصفصاف لعدة ثوانٍ ثم أمشي بضع خطوات لأشترِ بعض الخبز من تلك البائعة ذات الوجه العابس… أظنُّ أنه سيكون لذيذاً ويعجب أمي...أمي! يا للهول كيف نسيتُ أمرها!
تلكَ اللحظة رأيتُ أمي تشع نوراً أكثر من باقي الأرواح، وتصعد لأعلى بكلِّ سلام بينما أنا أتسلق بكل مشقة وأنادي عليها بكل إلحاح… حاولتُ اللحاق بها لكنني لم أستطع؛ فقد كانت أنانيتي حملاً كبيراً على ظهري. أظنها فارقت الحياة حزناً عليّ، بعد أن سمعت بأنَّني أمسيتُ جثةً هامدةً على الجادة 36.
-لم أستطع اللحاق بأمي حتى هذه اللحظة...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات