يسرد الكاتب في هذه التدوينة قصَّةً يشير من خلالها إلى هيمنة التقنية على حياة الإنسان واستيلائها على معظم وقته واهتماماته.



فيصل عقاب


في بداِية يومٍ جديد كعادتي ذهبتُ وأنا أسابق الشروق إلى بقالة حارتنا لشراءِ بعض لوازم الإفطار، وجدتُ (العم مصلح) في جدالٍ ساخن مع البائع، كادت أن تصلَ حرارتهُ إلى درجةِ الغليان لولا تدخلي بشجاعة رجُلِ الإطفاء.

-صباح الخير يا عم مصلح! ما الذي يجري؟

أجابني البائع بلغة عربية مهترئة كصباحِه: لقد أوقفنا بيع الجرائد ولم نَحسِب حسابَ زبونها اليتيم!

أهذا كل ما في الأمر!؟

ظننتُ أنَّ الخبز أفلَت تمسُّكه برياله، أو قام الثورُ بتأميم أثداء بقراته، أو أعاد الديك تقييم سعر بيضِ زوجاته!

وما حاجتُك إلى تكديسِ الورق؟ يمكنك التجولُ بينَ ما لذَّ وطابَ مِنَ الصُحفِ المحليةِ والعالميةِ بضغطة زرٍ واحدة وبالمجان وكفى الله المؤمنينَ شر القتال!

هنا بَاحَ سدُّ العم مصلح في وجهِي:

لقد كانت تستقبلني كل يوم! هُنا تجلسُ الشَرق الأوسط وفي الرَّف العُلوي عكاظ وهنا الحياة، أيُّ صباحٍ أبدأهُ بدونِ رائحةِ الوَرقِ الطازَج؟ قل لي كيفَ أروِي عَطشَ أصابِعي لحبرِها!! كيفَ يكونُ الصباحُ صباحًا دونَ أن تُرفرفَ أجنحة صحيفتي؟ كيف يَجرؤ هذا على سَرِقة لَهفتي إلى الورق!

لا ذَنب َلهُ يا عم، لا تَنبش براءَتهُ بإصبَع اتهامك، لَم يكن هُو المُوقِّع على إعدامِ معشوقتك الورقِة، إنها الآلة يا عم مصلح!! هي مَن أعادَت أوراقك إلى أخشَابِها، إنها الآلة مَن فَعلت وجفَّفت أحبارًا أدمنتها!

إنّه زَمن الآلة يا عم، الآلة التي صَنعَها الإنسان ثُمَّ تَمردت عليهِ وسيطَرت على حياتِه، بَل نَافسته عليها وسَلبت مِنهُ العَديد مِنَ الوظائِف. مَع الآلة يَا عم لم تَعدِ الصَحِيفةُ صحيفةً ولا القلمُ قلمًا ولا المِحفظة مِحفظةً ولا البَنكُ بنكا، لقدْ أصبَحت جُلَّ ضَرورياتِنا داخِلَ جهازٍ واحد بِسرعةٍ دونَ أنْ نَشعُر، مَا أجمَل حياة سُهولةِ الوصولِ وَالسُرعة ِفي الإنْجاز وَتلبية الرَّغَبات، وما أقبحَ حاجتَنا الماسَّة إلى الإحساسِ بالأشياءِ مِن حولنا! لقد أصبَحت حياتُنا أسهلَ وأكثرَ رفاهِية مِن جيلَك الَّذي لَم يتوقَّع أكبرُ الطامِحينَ فيهِ بأن يعيشَ أحفادُه هذا المُستَوى مِنَ الرفاهية والسُّهولة. لكننا نفتقدُ إلى مَعنى الأشياءْ يا عم!



نَصّ

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات نَصّ

تدوينات ذات صلة