"أُبتلي سيدنا ايوب ابتلاء عظيما ولكنه صبر صبرا جميلا ضُرب به المثل في كل زمان ومكان حتى أصبح كل من يطلب الصبر يتمني أن يكون صبره من صبر أيوب"

لم يخلو أحد من عباد الله في مرحلة ما في حياته من ابتلاء صغُر أو كَبُر، سواء في ماله أو أهله أو صحته. والقدرة على تحمل الابتلاء هي ترمومتر الإيمان بالله. والابتلاء قد يكون من الله ليختبر عبده الذي يحبه أو من خلال الشيطان الذي يكرهه بسبب حب العبد لله. وفي كلا الحالتين يكون انتصار العبد علي محنة الابتلاء هي المنحة الكبري من الله سبحانه وتعالي. وكلما كانت المحنة أشد كلما كانت المنحة أكبر وأعظم.

وأن يبتلي الله عبدا في ماله من بعد غني لهو أمر عصيب، وأن يبتليه في أهله وأولاده دفعة واحدة لهو أمر أصعب، وأن يبتليه في صحته حتى يصير قعيدا لهو عين الابتلاء، أما أن يبتليه في ماله وأولاده وصحته فهو أشد الابتلاءات التي قد لا يتحملها حتى العبد المؤمن وإن استطاع أن يتحملها فبشق الأنفس. أما أن يبتلي الله عبدا من عباده في المال والأهل والصحة وفي وقت واحد فهو من شد الابتلاءات التي قد تصيب صاحبها ليس فقط بالاكتتاب والهم والحزن والمرض الجسدي والنفسي، بل قد يمتد الأمر إلى أن يفقد العبد الثقة في ربه وفي ايمانه والعياذ بالله.

ولأن الأنبياء أحب العباد لله سبحانه وتعالي، فدائما ما يبتلي الله أحب عباده ليكونوا قدوة لنا نتعلم منهم كيف يكون الابتلاء، وكيف نواجه ونتعامل معه، وكيف نتغلب عليه ونصبر حتى تمر الأزمة مهما طالت واشتدت. وقليل ما ابتلي الله أنبياءه ورسله في كل ما يملكونه من مال وكل ما لديهم من ولد وكل ما متعهم الله من صحة. فقد ابتلي الله سيدنا نوح في زوجته وولده واختبر صبره على كفر قومه، وابتلي سيدنا ابراهيم في ولده واختبره في القدرة على مواجهة ابيه وعمه وقومه الكافرون والنار التي القوة فيها، وابتلي الله سيدنا لوط في زوجته وفحش قومه، واختبر سيدنا يعقوب في ولده، وابتلي سيدنا يوسف في غربته وسجنه وظلمه، وابتلي سيدنا موسي في خوفه وغربته واختبره في قدرته على مواجهة فرعون وسحرته، وابتلي سيدنا يونس بظلمة بطن الحوت، وسيدنا عيسي باليهود الذين طاردوه وارادوا ذبحه وصلبه، وابتلي سيدنا محمد في موت ابنه الوحيد وكفر وعناد قومه وعدائهم وفراق عمه وزوجته.

وكان كل ابتلاء لنبي من الأنبياء لا يدوم طويلا قبل أن يرفعه الله ويرفعه عن نبيه. إلا ابتلاء سيدنا أيوب الذي طال ما يقرب من ١٨ عاما كانت شديدة الصعوبة عليه هو وزوجته. وكان أعظم ابتلاءات الله لأنبيائه هو ابتلاءه لسيدنا أيوب. فقد ابتلاه الله في ماله وأولاده وصحته في توقيت واحد. فقد كان سيدنا ايوب من أكبر الأغنياء في عصره. فقد امتلك الحرث والأرض والمرعي والزرع والثمار والماشية والأغنام والأبقار. وامتلك من المال ما جعله الأغنى بلا منازع. ورزقه الله الكثير من الأولي ليقر قلبه. وفوق كل ذلك متعه الله بصحة موفورة وزوجة جميلة وعفيفة. وهكذا نري أن سيدنا يعقوب دانت له كل أسباب الحياة من مال وجاه وسلطان وصحة.

الأنبياء والابتلاءات  الحلقة السابعة: سيدنا أيوب80444255179141300


وسيدنا أيوب من نسل سيدنا ابراهيم وجده سيدنا اسحاق وولد وترعرع في بلاد حاران التي عاش فيها فترة طويلة سيدنا ابراهيم قبل أن ينتقل الي فلسطين ومكة. وزوجة سيدنا ايوب هي السيدة "ليا" أو "رحمة" والتي هي أيضا من نسل سيدنا ابراهيم وجدها سيدنا يوسف بن يعقوب ابن إسحاق. وسيدنا أيوب هو أحد أنبياء الله الذين أوحي إليهم وارسله الله إلي قوم حاران وهم من الروم ليهديهم الي سواء السبيل. وعرف سيدنا أيوب بين قومه بالغني ولكن أيضا بالتقوي والورع والكرم وطاعة الله طاعة ليس لغرض دنيوي ولكن مخلصا وجهه لله كجده إبراهيم.

ورغم كل هذه النعم الظاهرة والباطنة التي قد تُلهي صاحبها عن ذكر الله والتقرب اليه، إلا أن سيدنا أيوب كان يتقرب إلي الله كل يوم بهذه النعم. فكان يحمد الله أناء الليل والنهار ولا يتوقف أبدًا عن عبادته وشكره بقلب مملوء بالحمد والشكر والتواضع. كان كريما مع الفقراء والمساكين واليتامى. يفيض عليهم بما رزقه الله. وكلما أفاض عليهم زاد الله في رزقه مرات ومرات فيقوم هو بشكر الله تعالي بكل حواسه. وعُرف بين الناس واشتهر بكرمه فكان بابه مفتوحا لكل محتاج. وأصبح مشهورا بكرمه وزهده وحمده لله حتى أن الله أمر الملائكة بالدعاء لله في السماء العلا مما أغاظ ابليس اللعين الذي قرر الحرب على سيدنا أيوب حقدا عليه فقرر الانتقام منه ظننا منه أنه بزوال النعم عن أيوب يتوقف شكره وبالتالي يكشف سبب تقربه إلي الله.

وبالفعل أعلن ابليس الحرب على سيدنا أيوب بعد أن تعلل بأن سبب تقرب ايوب من ربه وفي حُسن عبادته هو بسبب النعيم الذي رزقه الله به فإذا ذهب هذا النعيم سوف يتوقف أيوب عن عبادة ربه، أي أنها عبادة وتقوي مصلحة لمنفعة شخصية. هكذا كان مدخل ابليس لتحدي سيدنا أيوب أمام الله لكي يبدأ بتجريده من كل النعم. ولأن الله يعلم الأرض التي نبتت منها جذور وسيقان وأوراق ايمان وتقوي سيدنا أيوب ويعلم أنه مخلص في عبادته وتقواه، وأن السبب في تقربه إلي الله هو الشكر على النعم وليس في الحفاظ عليها والزيادة فيها رغم أنها نوع من أنواع العبادة، فقد ترك الله ابليس في حربه على سيدنا أيوب ليعلم هذا الشيطان الرجيم درسا قاسيا في الإخلاص في الإيمان والثبات عليه رغم كل الشدائد وذلك علي يد عبده أيوب.

وبدأ الشيطان في حربه على سيدنا يعقوب في ضربات متتالية وعن غيظ وحقد وتحدي. وكانت أول الضربات انهيار الثروة الهائلة التي كان يمتلكها سيدنا أيوب. فجأة هلك الزرع وجف الماء وبارت الأرض ونفقت كل الماشية والأغنام والجمال والمرعي التي كان يمتلكها سيدنا أيوب بالآلاف المؤلفة. وعندما وصلته هذه الأخبار الصادمة، لم تزده إلا شكرا لله وخر ساجدا لله يحمده على ما أعطي وما منع وما أخذ. اغتاظ الشيطان من رد فعل سيدنا أيوب فقد كان يتوقع أنه انهيار إيمانه بعد أن يَمُسُه في ثروته. واغتاظ الشيطان من قوة ايمان سيدنا أيوب وفرح الله سبحانه وتعالي بإيمان عبده.

ثم جاءت الضربة الثانية من الابتلاء الكبير على سيدنا أيوب، والتي نالت أولاده قرة عينه. وكان الله قد رزق سيدنا أيوب عليه السلام بالعديد من الأولاد من الأولاد والبنات. كانوا يملؤون عليه حياته ويحمد الله عليهم وعلى صلاحهم وبرهم وطاعتهم لله وله ولزوجته. وبعد أيام من هلاك ثروته بالكامل وصل سيدنا أيوب الخبر المفجع وهو هلاك جميع أولاده مرة واحدة. وهنا توقع الشيطان أن ينهار سيدنا أيوب تماما ويشكوا الله أو على الأقل يشتكي لله، ولكنه فوجئ بأن سيدنا يعقوب يخر ساجدا لله يشكره ويحمده بقلب عبد مخلص ولسان شاكر علي هلاك أولاده فالله هو الذي أعطي وهو الذي أخذ. واغتاظ الشيطان من قوة ايمان سيدنا أيوب وفرح الله سبحانه وتعالي بإيمان عبده.

ثم جاءت الضربة الثالثة والابتلاء الأعظم والثالث على سيدنا أيوب وهي مرض جوارحه التي كان يعبد بها الله ولم يتوقف عن عبادته حتي بعد الابتلاء الأول والثاني. فوجئت زوجة سيدنا أيوب وأهله وأصدقائه وجيرانه بالمرض يمس جسده رويدا رويدا حتى حل المرض بكل أعضاء جسده جزءا جزء ما عدا قلبه ولسانه ليظل يشكر بهما الله سبحانه وتعالي. وازدادت شدة المرض حتى أصبح قعيدا لا يستطيع الحركة ولا العمل حتى أصبح لا يستطيع أن يخدم نفسه أو يقضي حاجته. وازدادت شدة المرض وطالت فترته لسنوات حتى أصبح الناس يمتنعون عن زيارته ما عدا زوجته التي لم تتركه لحظة واحدة واثنين من أصدقائه المخلصين. ورغم شدة المرض وآلامه ورغم احتياجه للمأكل والمشرب ورغم أن زوجته التي أصبحت تعمل في بيوت القوم لكي تنفق على زوجها وعلى نفسها، إلا أن سيدنا أيوب لم يُرد أن يطلب الشفاء من الله ليزول هذا الكرب الشديد الذي طال عليه وانعكس على زوجته. ولم يكن ذلك إلا حياء من الله. واغتاظ الشيطان من قوة ايمان سيدنا أيوب وفرح الله سبحانه وتعالي بإيمان عبده.

وعندما شعرت زوجته بمدي الآلام التي يعاني منها زوجها سيدنا أيوب والحال الذي وصل اليه بيتها من قلة الحيلة بعد أن نفذت كل الطرق في الحفاظ على أقل دخل للمنزل، طلبت من زوجها أن يدعو ربه لكي يزول هذا الكرب وهذه الهموم خاصة أنه قد صبر على حاله هذا ٧ سنوات عضال. ولكن كان رد سيدنا أيوب علي زوجته ردا مليئا بالإيمان والتقوى والتسليم بقضاء الله. طلب سيدنا أيوب من زوجته بأن تصبر على قضاء الله فكيف له أن يطلب من الله رفع البلاء بعد ٧ سنوات من الكرب وهو الذي عاش في نعيم الله لمدة ٧٠ عاما، فقد استحي أن يدعوا الله وهو الذي اكرمه بما لم يرزق به أحد من عباده. وصمتت زوجته السيدة ليا "رحمة" وابتسمت وصبرت. واغتاظ الشيطان من قوة ايمان سيدنا أيوب وفرح الله سبحانه وتعالي بإيمان عبده.

واستمر الكرب من ضيق في الرزق وما ترتب عن هلاك الأولاد والمرض الشديد لمدة ١٠ سنوات عضال أخري دون أن يشتكي سيدنا أيوب من أي من هذه الكروب بل استمر في شكر الله وحمده بلسانه وقلبه اللذان لم ينالهما المرض فقد حفظهما الله له. ويئس ابليس اللعين من الاغواء بسيدنا أيوب وزوجته التي ضربت المثل للزوجة المخلصة والمؤمنة التي لم تتخلي أبدًا عن زوجها طيلة ١٨ عاما رغم خسرانه كل ما يملك حتى صحته ولم يعد لديه ما يغري أي زوجة للبقاء ليلة واحدة مع زوجها. وصبرت حتى وصل الأمر إلى أن قصت شعرها وباعته لكي تشتري طعاما لها ولزوجها بعد أن ضاقت عليها الأرض بما رحبت مما اغضب سيدنا أيوب وتمني لو لم تفعل.

وفجأة وبعد سنين طوال جاء الفرج من الله سبحانه وتعالي على سيدنا أيوب وزوجته. فكعاداتها اصطحبته إلى الخلاء ليقضي حاجته وتركته لتقضي بعض اعمال المنزل حتى ينتهي وتعود إليه. تأخرت عليه قليلا فشعر سيدنا أيوب بالحاجة إليها لأنه كان غير قادر علي الاعتماد على نفسه. وثناء هذا الشعور والحاجة إلي من يتكأ عليه في الخلاء دعا ربه دعاء غير مباشر بأن يشفيه. ذكر فقط لله حاله ومس الشيطان له وأنه أرحم الراحمين. وكانت هذه أول مرة يفضفض فيها سيدنا أيوب عن ابتلاءه مع ربه منذ الابتلاء الأول. ولم يكن دعاء مباشر ولكن مجرد فضفضة عن استحياء لله عما مسه من ضُر. وهنا جاء الانفراج الكبير من السماء. طلب الله من سيدنا أيوب أن يضرب برجله الأرض تحته قدميه. ورغم وهنه إلا أن سيدنا أيوب استطاع أن يضرب برجله الأرض ليفاجأ بينبوعين من المياه تتفجر تحت قدميه، عين يغتسل منها وعين يشرب منها. وهنا فوجئ سيدنا أيوب بعد ارتواءه بذهاب الآلام تماما والشعور بالصحة تدب في بدنه رويدا رويدا حتى أصبح معافي تماما من كل مرض وعادت إليه صحته وملامحه أكثر جمالا وبهاء عما كانت عليه منذ ١٨ عاما. وعلي الفور شكر سيدنا ايوب ربه وحمده وفرح برحمة الله وفضله. واغتاظ الشيطان من قوة ايمان سيدنا أيوب وفرح الله سبحانه وتعالي بإيمان عبده.

وعندما عادت زوجته ليا لتأخذه الي بيتهما بعد قضاء حاجته، فوجئت بزوجها ماثل أمام عينها بملامحه الجميلة وصحته وبهاء وجهه قبل المرض حتي انها لم تتعرف عليه في بادئ الأمر. كانت المفاجأة جميلة وعظيمة ولكنها حمدت الله علي فضله وعلى رحمته على زوجها أيوب الذي صبر صبرا شديدا وجميلا وطويلا على مرضه وعلى فقدان ماله واولاده. وعاد سيدنا أيوب وزوجته الي البيت فرحين بما آتاهم الله جزاء علي صبر أيوب وعلي صبرها معه. وكما هبطت الابتلاءات تباعا وسريعا على سيدنا ايوب منذ ١٨ عاما، فقد هبطت أيضا الانفراجات على سيدنا أيوب تباعا من السماء. فقد حلت البركة مرة أخري وسريعا في أمواله وأملاكه من الأرض والحرث والزرع والمرعي حتى تعجب الناس من تغير الحال من الفقر المدقع إلي سابق العصر والأوان. ثم رزق الله سيدنا أيوب بالأولاد وبارك فيهم حتى خرج منهم نبي من أنبياء الله هو سيدنا ذا الكفل والذي سُمي بذلك لشهرته بكفالة الأيتام والفقراء والمساكين والمحتاجين ليكمل مسيرة والده سيدنا أيوب عليه السلام.

وهكذا نري كيف يكون البلاء وكيف يكون الصبر وكيف تكون رحمة الله ولو بعد حين. وكيف أن ابتلاء الله لعباده ليس كرها لهم ولكن حبا لهم وفيهم، فالعبد المؤمن هو أكثر العباد ابتلاء. فقد أُبتلي سيدنا ايوب ابتلاء عظيما ولكنه صبر صبرا جميلا ضُرب به المثل في كل زمان ومكان حتى أصبح كل من يطلب الصبر يتمني أن يكون مثل صبر أيوب.

اللهم ارحم سيدنا أيوب عليه السلام والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم وجميع الأنبياء والمرسلين.

مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة - كلية العلوم - جامعة طنطا - مصر

عضو اتحاد كتاب مصر


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة