"ليت الأسرة المصرية تعود إلي ثقافة تناول الغذاء في المنزل كوسيلة للتجمع الأسري"


أصبحت عادة تناول وجبة الغذاء والعشاء وأحيانا الإفطار في المطاعم وليس في المنزل ثقافة مجتمعية حتى مع الأسر متوسطة الدخل. ورغم الظروف الاقتصادية للكثير منا، ورغم ارتفاع أسعار الوجبات الغذائية، ورغم توقع انخفاض نوعية الأكل المطبوخ في المطاعم عن مثيله في البيت، إلا أن هذه الظاهرة أصبحت منتشرة للغاية بين الكبار والصغار مما شجع أصحاب الأعمال للإقبال على الاستثمار في بيزنس المطاعم بكل أنواعها. ومن يري أعداد الناس التي تتناول وجباتها في المطاعم قد يحكم على جموع المصريين بالاستقرار المادي أو حتى الثراء.


وقد بدأت تلك الثقافة الجديدة منذ عشرين عامًا في المدن الصغيرة على استحياء ثم زادت بصورة مطردة في وقت قصير حتى يكاد لا يخلو شارع في طنطا الآن من وجود أكثر من مطعم وكافيتريا. ورغم أن لهذه الثقافة العديد من المميزات، إلا أن هناك أيضًا العديد من العيوب الكبيرة. وقبل أن أذكر تلك العيوب والمميزات دعوني أنقل اليكم (خاصة من في مرحلة الصبا والشباب) ثقافة تناول الطعام خارج البيت في الماضي القريب والبعيد، سواء في الريف أو المدن الصغيرة لكي نتخيل مدى التغير الذي حدث وتوابع هذا التغيير الصحية، والمالية، والاقتصادية، والسلوكية، والاجتماعية.


فعندما كنت طفلًا في الابتدائية، كان شراء مجرد سندوتشات فول وطعمية من المدينة، يمثل حدثًا جميلًا ولذيذًا، بل واستثنائيًا. وبالطبع كان هذا الطلب (المطمع) يتم من أبي أو أمي أو أحد إخوتي الأكبر مني. ولم يكن هذا المطلب الاستثنائي خاص بي فقط، بل كانت تمثل ثقافة عامة لأن كل بيوت الريف آنذاك كانت لديها نظام الاكتفاء الغذائي الذاتي من رغيف الخبز بأنواعه (البتاوي، المرحرح، الغلة، الذرة، القرص، وخلافه) إلى كل المنتجات الغذائية من خضار، وفواكه، وطيور سواء منتجة من الأسرة نفسها أو تُباع في سوق البلدة الأسبوعي. وعندما فطن بعض أصحاب الأعمال الصغيرة برغبة أهل الريف في شراء المنتجات الخاصة بالمدينة مثل سندوتشات الفول والطعمية، قاموا بالاستفادة من هذا الاتجاه وفتحوا في القرية مطاعم صغيرة (دكاكين) لشراء هذه السندوتشات على الواقف وبأسعار رخيصة.


وحتى بعد انتقالي لدراسة الإعدادية في المدينة لم يتغير الحال كثيرًا، وكانت الزيادة بسيطة جدًا على مستوي شراء سندوتشات الجبنة الرومي أو المربة وقطعة من الحلويات (الباسطة أو الكنافة) عندما تسمح الحالة الاقتصادية بهذا الترف. وأتذكر أنه كان يوجد مطعم لحوم في زفتي يتردد عليه ميسوري الحال فقط. وعندما انتقلت الي المدينة أثناء المرحلة الجامعية سواء مرحلة البكالوريوس أو فترة معيد قبل سفري إلى اليابان، كانت مطاعم اللحوم والأسماك في مدينتي محدودة جدا وأيضًا تحتاج ميزانية خاصة. وكانت مطاعم الفول والطعمية هي الأكثر انتشارًا وشعبية ومعها بعض مطاعم الكشري على ما أتذكر أحدهما في منطقة ميدان القطار وآخر في ميدان الساعة. وأستطيع القول وبكل صدق وأريحية أن مطاعم الفول والطعمية ومعها الكشري كانت هي الملاذ الأول لي ولكثير من زملائي من الطلبة، بالإضافة إلى وجبة التغذية في مطعم الجامعة التي كانت أكثر من رائعة.


ثم تطور الحال رويدًا رويدًا وبدأت المطاعم تزداد على استحياء في المدينة، ولكن كان عددها محدودًا حتى ١٠ سنوات مضت. ثم حدثت حالة من الانفتاح غير المسبوق على الاقبال على انشاء العديد من المطاعم والكافيهات في كل شارع، حتى يكاد لا يخلو شارع واحد من العديد منها. وأدت هذه الزيادة المفرطة في انتشار ثقافة تناول وجبة واحدة في اليوم على الأقل خارج المنزل، وأعتبر الناس ذلك نوعًا من الفسحة ومن العادة.


ومع أن تناول الغذاء في المطاعم يسهل على ربة البيت وقت ومجهود الطبخ والغسيل والتنظيف، إلا أن ثقافة تناول الوجبات خارج البيت لها آثارها الجانبية الكبيرة على الأسرة والمجتمع. فمن ناحية تقلل من فرص تناول الغذاء الصحي في البيت بجودته العالية. كما أن هذه الثقافة الدخيلة تقلل من فرص تجمع عائلي كلها في بيئة حميمية أثناء تناول الوجبة مما كان له أثر في التباعد الأسري، تمامًا كما فعلت وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت سببًا في الانعزال بدلا من التواصل الاجتماعي. وبالطبع، أصبحت هذه الوجبات خارج المنزل عبء مادي على كاهل رب الأسرة لأن تكلفتها أضعافا مضاعفة لثمنها لو تم أعداد الوجبة نفسها في مطبخ البيت.


في الواقع، أنا أرى أن تناول الوجبات خارج المنزل بصورة كبيرة هو عبء صحي ومادي واجتماعي على الأسرة، الأمر الذي يجب على الأسر اعادة النظر فيه والاقتصار عليه فقط في "العزومات" التي تحتاج إلى مجهود ضخم قبل وبعد اعداد الوجبات. فعلى الأسرة المصرية أن تعود لثقافة تناول الغذاء في المنزل كوسيلة للتجمع الأسري، والحرص على تناول غذاء صحي بعيدا عن المكونات الغذائية المعدة مسبقًا والمضاف اليها العديد من مكسبات الطعم، مع احتمالية جودة سيئة بسبب نوعية المخزون أو بسبب سوء التخزين. وقد رأينا العديد من الاخبار في وسائل الاعلام عن عدم التزام مطاعم ومشهورة عن قواعد التخزين والأسوأ من ذلك مصادر مواد الغذاء التي وصل الأمر أحيانا لاستخدام لحوم الكلاب في الطهي.


ومع أن زيادة عدد المطاعم والكافيهات شيء مطلوب ومفيد كمكان للقاء الناس خارج البيوت لإتاحة الخصوصية، إلا أنه يجب أن تكون لهذا الغرض فقط وفي المناسبات. أما انتشار ثقافة الأكل الخارجي في معظم الأوقات فلا بد من اعادة النظر فيها خاصة للأطفال الذين هم في حاجة إلى تجمع أسري وغذاء صحي.

مجرد نصيحة طبقتها على نفسي منذ أكثر من عام ونجحت نجاحا كبيرًا.


تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة