"إذا كان عقلي ملكي، وقلبي أنا ملكه، فهل من حق القلب أن يندم على مشاعره كما هو حقٌ للعقل أن يندم على قراراته!"



العقل هو المنوط به التفكير بكل مراحله، ولذلك فليس لديه عذر في أن يتأمل، ويدرك، ويتدبر، ثم يقرر ما يراه مناسبًا طبقًا لما هو متاح لديه من معلومات. وسواء كان القرار خطئًا أو صوابًا فلا جناح علي العقل، لأنه فكر، ودبر، وقرر على قدر مستواه العقلي الذي وهبه الله إياه. ولأن هذا المستوي يختلف من فرد إلى آخر، فدرجة الصواب والخطأ هي أيضًا تختلف من فرد إلى آخر، فلا جناح على العقل أن يخطأ طالما لم يكن خطئًا مقصودًا.


ولأن عمليات التفكير المتتالية، كثيرة ومتعاقبة وأيضًا متزامنة، فمن الوارد جدًا أن يرتكب العقل خطئًا غير مقصود سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، الذي قد يؤثر بدوره على قرارات صاحبه الشخصية، أو الحياتية المتعلقة بالوظيفة، أو الأسرة، أو المجتمع حوله. ولذلك، فمن حق العقل أن يندم على القرار خاصة عندما يمر عليه الزمن ويدرك - بسبب الخبرة والنضج والتعليم والتعلم - أن ما كان قد ظن أنه صواب اكتشف لاحقًا أنه عين الخطأ.


والندم العقلي هنا ليس عيبًا على الإطلاق، بل هو عين العقل (كل الحكمة والعقلانية) لأن صاحبه يتعلم من أخطاء ماضيه لصالح حاضره ومستقبله، وإلا تعددت وتكررت الأخطاء ولو بحسن نية أو قلة تفكير.

فعندما تعود بك الذاكرة غصبًا وتتذكر قرارًا ما كنت قد اتخذته في وقت سابق من عمرك واكتشفت أنه سبب كل المصاعب والتحديات التي تمر بها في الحاضر، فلا تمنع نفسك من الندم، ولكن على ألا تلومها، أو تعاقبها أو تجلدها. فالخطأ في القرارات وارد خاصة ونحن صغار أو ونحن تحت ضغوط نفسية أو عاطفية، (لحظات الضعف الإنساني) التي لا تخلو منها حياة أي منا. فعندما تشعر بهذا الندم، اندم لكي تتعلم، ولكن دون أن تجلد ذاتك بذاتك.


والسؤال الآن، هل من حق القلب أن يندم كما هو حق للعقل. في الواقع، هناك تواصلٌ عصبي بين العقل والقلب: من العقل إلى القلب ومن القلب إلى العقل. وفي كلا الاتجاهين، يعمل القلب كالجهاز التعبيري للعقل، أو كالقلم والألوان التي يستخدما الفنان، أو المحامي، أو القاضي، أو الأستاذ (العقل) لكي ينطق بما يجول بداخله. وبمعني آخر، القلب هنا يشبه الطابعة ثلاثية الأبعاد التي تطبع في صفحة المشاعر انفعالات العقل المختلفة والمتعددة. فالقلب هنا، لا حيلة لديه لأنه مُستقْبِلْ لنواتج العقل، ويخرجها على هيئة نبضات ودقات تعبر عن الفرح، أو الحزن، أو الترقب، أو القلق، أو التوتر، أو السكينة والهدوء وغيرها من المشاعر الإنسانية.


ولكن هناك بُعْدٌ آخر للقلب بمعزل عن العقل (المتصل بصورة أو بأخرى بالدماغ) في اخراج المشاعر. فالقلب به مجموعة من الأعصاب التي تعمل ذاتيًا بمعزل عن الدماغ، فلا هي تستأذن العقل في عملها، ولا هي تستأذن حتى القلب نفسه في عملها، رغم وجودها في القلب نفسه. هي مجموعة من الأعصاب نسميها "العقل الصغير" أو "عقل القلب" لانفصالها تمامًا وعدم ارتباطها بالدماغ.


ومجمل هذه الأعصاب بهذا المخ الصغير مسئولة بدرجة كبيرة عن تمثيل واخراج وإنتاج المشاعر الإنسانية في صورتها الداخلية قبل وأثناء وبعد وقوع الحدث. فهي كقرون الاستشعار التي تجعلنا نشعر بالحدث وطبيعته وتأثيره قبل حدوثه وهو ما نسميه "الحَدَسْ). وهي أيضًا تتفاعل مع الأحداث فور وقوعها فتشعرنا بالأحداث وتأثيرها النفسي علينا. وهي أيضًا يبقي تأثيرها فينا بعد انتهاء الحدث حاملة ذاكرة طويلة المفعول لكل هذه التأثيرات. فمن ناحية لا ننساها بسهولة ومن ناحية أخرى تُكَوّن ما نُسميه بالمناعة النفسية، تمامًا كالمناعة التي نكتسبها ضد الأحداث أثناء العدوى بالميكروبات.


المدهش أن هذا المخ الصغير بالقلب يوجد أيضًا في الحيوانات كما في الإنسان، بل تم اكتشافه أولًا في فئران التجارب قبل الإنسان، مما يعني أنه مخ فطري مسؤول عن المشاعر الفطرية سواء في الإنسان أو الحيوانات، والتي لها أيضًا مشاعر فطرية مثلنا تمامًا مثل الحب، والكره، والمكر، والخداع، والصدق، والخوف والقلق، والعطف، والتوتر، والاطمئنان، وغيرها من المشاعر البسيطة والمركبة.

فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقلب كمضخة المشاعر، ولوحتها الفنية، ونهرها الجاري معبرًا عن كل أنواع الانفعالات سواء القادمة من الدماغ (العقل الكبير) أو من مخ القلب نفسه (العقل الصغير)، فهل من حق القلب أن يندم على مشاعره.


بالطبع، لا يستطيع، بل وليس من حقه لأن يندم، لأن الندم لا يجوز إلا على ما كان لنا اختيار فيه حتى ولو كنا قد فكرنا فيه لبعض الوقت. فكيف نندم على شخصٍ أحببناه وأخلصنا له، ولكنه لم يُخلص لنا في حُبه. وكيف نندم على شخصٍ فارقنا أو فارقناه بعد أن اكتشفنا وأدركنا أن المشاعر قد تغيرت أو تبدلت أو ماتت، فالفراق هنا حياة لكلا من الطرفين، فكيف نندم على هذا الفراق الحميد. وكيف نندم على هجر صديق ظننا يومًا أنه كان لقلبنا قبل عقلنا صديق، فالهجر هنا هجر حميد خير من القُرب الخبيث. فلا ندم مع ما تمناه القلب وشعر لأنه شعورٌ فطري. الأمر هنا يشبه تمامُا مشاعرنا الوطنية، فهل هناك من يندم على حب الوطن حتى وإن جار عليه الوطن.


إن العلاقة بين القلب والعقل علاقة ثنائية وفردية. فإذا كان كلًا منهما يؤثر على الآخر، فلكل له عقله الخاص به. فإذا كان من حقنا الندم على قرارات العقل، فليس من حقنًا أبدًا الندم على مشاعر القلب خاصة تلك التي ورائها المخ الصغير بالقلب. فإذا كان عقلي ملكي، فقلبي أنا ملكه. وما أجمل أن تكون ملكًا لقلبك حتى لا تكون مسئولًا عن مشاعرك، ففي المسئولية تفكير وتقرير، وعتاب، وندم. فإذا كان العقل يجعلنا نعيش في جلباب الحكماء، فإن القلب يجعلنا نعيش مشاعر الأطفال بلا حساب.


فأندم صديقي كما تشاء طالما أنه ندم من العقل، ولا تندم صديقي على مشاعرك طالما كانت من القلب.


د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة