إنّ خلق النفس البشرية تتَمَّثَلّ بالإعجاز والتكريم ،فالعقلُّ والقلبُ كيانٌ واحِدٌ متصل لا ينفك بعضهُ عن بعض !

فما زرعتهُ بروحِكَ وقبضَ عليهِ قلبكَ ترجمهُ عقلك بسلوكٍ قائم مُحكم .فماذا بداخلك؟!


كانَ علم النفس يَتَبِع في منهجَهُ نظريات دُنيويّة تُحاول تفسير ما يجول بالخاطر البشريّ ،مُدَّعِيَّة التنوير والحَداثة مع رفضها قَطعيًّا فِهم وَمُجابَلة الوازع الدينيّ وأثرهُ الحقيقي على النفس وعواطف كِيانُهُ ،باعتبار الأديان [وَهم قائم على النكوس إلى حالة وجدانيّة طُفوليّة] ؛مما اسْتِبعدت الخبرات والعلوم الفِكريّة الإنسانيّة التي لا يمكن ربطِها بالجسم حِسيًّا ومباشرة .

وقد أثبتَ علم النفس المُعاصر أهمية الدين والجوانب الروحانية وأثرها في الصحة النفسية والجسديّة .حيثُ تُعتبر من أهم العوامل لإعادة تفعيل الطمأنينة والسكينة في النفوس المُبعثرة ؛وذلك بجهود عُلماء متخصصين كُثر أمثال (كارل يونج) عالم النفس التحليلي الذي أكدّ أهميّة الدين والتديّن في إعادة خلق الإيمان والرَّخاء والرّجاء لدى المريض في طريق العلاج أو الوقاية الروحيّة .



ما هوَ الإيمان ،وما علاقة الأفكار بالشعور ؟


  • يُعرَّف الإيمان لُغَةً : بأنَّهُ مصدر آمنَ يُؤمنُ إيماناً، فهو مؤمنٌ، وهو من الأمن أي ضدّ الخوف ؛بمعنى التصديق والاعتقاد والثِقة بتصورات مُعَينة في النفس .إذ يُنمي الإيمان استراتيجيات تأقلم لدى الإنسان فاعِلة وتقوده إلى تسخير جوارِحه لتحقيقها أيًّا كانت طِباعها ،كأن تقول :أنا اؤمن بنجاح فُلان!
  • يُعرَّفُ الإيمان اصطلاحًا (في الإسلام) : تصديق لتصور وشعور مُعتقد وواثق وراسخ يَستقر في النفس بناءً على معرفة يقينية قائِمة ،ويُبنى عليهِا عمل وسلوك مُترجم عن أصلِ التصورات والأفكار السابِقة في الذات البشريّة .حيثُ تحاصر الفكرة_شعورك وعواطفك _ليتمم السلوك هذا الحِصار ويخرج انفعالاتك على هيئة عمل وسلوك تقوم بهِ كَرَّدة فعل واقِعة .

فالإيمان هو : (قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح يزيد وينقص). ليتجاوز بذلك معنى الإيمان سطحيّة الذات بالأعمال والظواهر البشريّة القائمة (كالإنضمام لحزب إسلامي معين أو مركز قرآني أو مذهب فُلاني..)فجميعها لا تكفي لتحقيق الإيمان في النفوس وإنما الأصل والأساس يكون في النيّة والداخل بأعماقِ أعماقِ النفس ومكنوناتها بالإعتقاد والتصديق بوجود الخالق وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كُلُهُ ؛لتؤثر على سلوكه ونفسيتهُ فيما بعد .

روى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، حيث يقول: (بينَما نحنُ ذاتَ يومٍ عندَ نبيِّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، إذ طلعَ علَينا رجلٌ شَديدُ بياضِ الثِّيابِ، شديدُ سوادِ الشَّعرِ، لا يُرى عليْهِ أثرُ السّفر، ولا يعرِفُهُ منّا أحَدٌ، حتَّى جلسَ إلى النّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فأسندَ رُكْبتَيهِ إلى رُكْبتيهِ، ووضعَ كفَّيهِ على فَخِذَيهِ،،،،قالَ: أخبرني عنِ الإيمانِ. قالَ: الإيمانُ أن تُؤْمِنَ باللَّهِ، وملائِكَتِهِ، وَكُتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخرِ، والقدرِ كلِّهِ؛ خيرِهِ وشرِّه. قالَ: صدَقتَ...)

حيثُ يعتبر الإيمان جزء جوهري من الفطرة البشريّة ؛بدليل توجه الإنسان بدوره للبحث عن مَعبود وخالق للكون منذُ خَلقِهِ ونَشأته ،فمن منظور إسلامي ترتحل حياة المخلوقات على الأرض لغاية العِبادة (وما خَلقْتُ الجن والإنس إلا ليعبدون). فالروح من أهم احتياجاتها صلة قُرب واتصال وتناجي مع بارِئِها .

والعجيب أنّ هناكَ قريّة في جنوب إفريقيا لم يصلها بشر حتى مطلع القرن العشرين ،وكانوا يعيشون حياة الإنسان الأول البِدائي دون لباسٍ يواري سُوئاتِهم ولا دواء يشفي مَرضاهم ،ولكنهم كانوا يعبدون الحجر والأصنام رغم جهلهم بكل ما في الوجود ولكن حاجتهم الفطريّة(الإيمان) دعتهم للبحث عن معبود .

ثمَّ لم يكن غريبًا أن نجد مثل "جيفري لانج" (عالم رياضيات أمريكي ) يعبر عن تلك الفطرة (الإيمان) بالقول: "يبدو أننا جميعا بحاجة لأن نؤمن بأحد ما أو شيء ما. فالحياة دون معنى أو اتجاه بائسة حقًّا. ويبدو أنه يتوجب أن نحيا من أجل شيء ما عزيز علينا ونموت من أجله، سواء كان هذا الهدف أو الشيء مبدأ سياسيًّا أو خطة حياتية أو أمة أو حلمًا أو فكرة أو مالا أو سلطة أو جاها أو أسرة أو شهرة أو ثأرًا".

فالإيمان فطري وضروري وتأثيرهُ مختلف بإختلاف الموضوع والمُعتقد الدافع للإيمان .فنتاج الإيمان بالله لا تتساوى مع الإيمان بالحجر مُطلقًا من حيث الإشباع والشعور !

وكم يدفعنا الإيمان لقبول ما لا يستوعبه العقل من خلال معرفة غير بشريّة (الوحي) حيث تفصل هذهِ المعرفة اليقينية بالخالق الإيمان عن الخرافات والأوهام والتشدد الذي قد يظهر في الإنسان بشكل مزعج وغير سَوّي ،بعكس رسالة الإيمان السوي الفطري الذي يُشبع الروح ويغذيها بدوافع الطمأنينة والسلام الداخلي والتوكل على الله والإلتجاء إليه سبحانه عند الشدائد ،ليحمي روحهُ من القلق والإكتئاب المسببان الرئيسيين لمعظم الاضطرابات النفسية .

لذلك يدعو الإسلام إلى توازن وَ الوسطية الحِثيّة بين الدنيا والآخرة ،والروح والجسد ،(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) ،فإذا اختلت كفة الميزان أحدثت فجوة في التوازن النفسي والإجتماعي .



كيفَ تَمرض الصحة النفسيّة ؟


إنّ الإنسان وبطبيعة (دُنيا الإبتلاء) يمرُّ بحياتهُ بالعديد من المَطبات والعِراكات والأزمات النفسيّة المُجهِدة كُلٌّ حسب طاقته الإستيعابيّة (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ) .حيثُ تعتبر القدرة على مواجهتها وعدم التوقف عِند نقطة معينة فيها ،والإحساس بالتجدد الإيجابي المُفعم بالسعادة والنسيان وإشباع الحاجات والرغبات الأساسيّة من الحب والأمن وإعادة شحن الذات والنجاح والتجاوز .هو الأصل بالصحة النفسيّة وسُويتها في داخل كل إنسان ،وما دون ذلك هوَ حِياد عن الأصل ومرض .سِواء بقلق زائد من شرّ مُتوقع وعدم القدرة على صَدِهِ أو اكتئاب ناجم عن الشعور بالإهمال والفراغ بفقدان قيمة الأشياء وفقدان لِذة السعادة وسيطرة اليأس الشديد على الذات ليؤدي بالتفاقم للإنتحار .

فالتوازن والوسطية الإسلاميّة بالجانب المادي والروحي وإشباعهم يُكسِب الإنسان الشخصيّة السويّة التي تُعَدّ أساسًا للصحة النفسيّة .والتي تقوم بدورها بإحباط عوادِم القلق والإكتئاب وأثرهما على النفس .وقد قرنّ القرآن الكريم الإيمان بالعمل الصالح بأغلب مواضع ذِكر الإيمان وكذلك السنة النبويّة ؛ لترشدنا لأهمية العمل الصالح بتزكيّة النفس وصَلاحِها ،يقول الله تعالى : (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).



☆ تعتمد الأساليب التربويّة الإسلاميّة لتقويّة المناعة والمعالجة في الصحة النفسيّة على عامِلين أساسين :


  • تعزيز الجانب الروحيّ بالإيمان وتقوى الله : للوقاية من الحالات الذهانية التي تصيب الإنسان عندَ تعرضه لِأزمات تُسبب له الإجهاد والضغط والتوتر .فَتفاقم حالة الذهانية والعصبية عن الحد الطبيعي غير صحيّ نفسيًا .ليذكر الإيمان القوي صاحبهُ الذي خُلِقَ ضعيفًا بِاللجوء إلى الله بواسطة الصلاة والصبر (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) ،والإستعانة بالتضرع بكامل ضعفِهِ (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) والذكر (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).مما يقودهُ إلى الإستشفاء بعون الله فقال عليه الصلاة والسلام: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف".وقولهُ أيضًا -صلى الله عليه وسلم- : "عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له ،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"، وفي هذا تعبير عن حالة متقدمة جدًّا في السلام والصحة النفسية.
  • أداء العبادات وتَحكيم النفس للسيطرة على الدوافع الغريزيّة وأهواء النفس العاصِّية : تتمثل العِبادات بِ (لصلاة والصيّام والحج والزكاة والقِيام والصبر وغيرها من مختلف الطاعات...) ،حيثُ يكمن جوهرها وغايتها الحقيقية بأثرها على النفس وتزكيتها في تحمل أعباء الحياة والربط على القلوب .فالكثير ممن يخلط بشكل وظاهريّة العبادة كالصلاة او الصيّام مثلًا بفعل العِبادة وتكرارها ظاهريًّا وشكليًّا دون التأثير على الداخل النفسي ،والحقيقة مُناقِضة لذلك "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"، و "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". هذا المعنى الشامل والعميق الذي تقدمهُ العِبادات والطاعات لنا وأثرها في دفع المفاسد وتنقية الروح من كُل شائِبة لا تليق .
  • التسامح وتقبل النفس : إن التسامح والصفح والإيمان برحمة الله التي وَسِعت كل شيء يجعلك دائم الأمل واليقين ومُسامح لنفسك حتى بعد إرتكاب إثم أو معصيّة .فالرضا النفسي أساس الإطمئنان والسكينة الروحية ،وإذا ما تقبل الإنسان نفسه سيقبل الآخرين بكل سَلاسة ويحب نفسه والآخرين رغم العيوب والأخطاء التي لا ينفك منها ولا يُعصم عنها البشر سِىوى رسل الله وأنبيائهُ .


●بالنهاية لا تنسى أخذ دوائك من (الإيمان والعبادات والتسامح) بواقع حبة يوميًّا للوقاية والعِلاج من الأمراض التي لا تجتاح أجسامنا وإنما قلوبنا وتنهش أرواحنا.

فمن غابَ عنهَ الدواء اصابتهُ الأمراض والأوبِئة عافانا الله وإياكم .


~أسأل الله أن ينفعكم بخيرِ ما كتبتْ ،ويكفيكم شَرَّهُ .








غزل هديب

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

اتفق معكِ في بطلان نسبتهُ إلى النبي -صلى الله عليهِ وسلم-لذلك لم انسبه في حديثي ولكنني أضفتهُ لدلالتهُ من القرآن الكريم وإن ضَعُفَ .
أشكر لكِ اهتمامكِ💛

نعم، بالضبط المقال رائع فِكرًا ولغةً وتبسيطًا للمعلومات❤ 😍
بالنسبة للحديث، أقتبس ما ورد في موقع إسلام ويب:
"أثر صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه عنه الإمام أحمد في الزهد، كما في كشف الخفاء ومزيل الإلباس. ولكن نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم لا تصح. قال الألباني رحمه الله تعالى في سلسلة الضعيفة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا. باطل، والمراد الصلاة الصحيحة التي لم تثمر ثمرتها التي ذكرها الله تبارك وتعالى في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[العنكبوت:45]"
💜

أما بالنسبة لضعف الحديث إذا كنتِ تقصدين فعندما بحثت عن صحتهُ وجدت دائرة للإفتاء أوردت ما يلي :ورد عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: سُئِل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ قال: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له»

إقرأ المزيد من تدوينات غزل هديب

تدوينات ذات صلة