ولا تكن ممَّن يُغلقُ الباب دونه عليه بمغلاقٍ من العجز مُقفلِ ،وَما المَرءُ إِلّا حَيثُ يَجعَلُ نَفسَهُ فَفي صالِح الأَعمالِ نَفسكَ فَاِجعَلِ.

إنّ الأَوانَ في غيرِ قصدهِ خَديعَةٌ ،وإنّ الوِئامَ بالتجلي والتمحيصِ لِلنِعَمِ يتجلى بالاصطفاءِ الصادق والذي لا يخيبُ أبدًا.

دوافعُ كتابتي لهذا المَقال تتمثل بدعوة صادقة وحُرّة ومؤمنة بضرورة رفعِ الجهلِ عن النفس والتنقيب بالآثارِ الباقيّة ؛لإعادة صِياغة مفاهيم أكثر وعيًّا ،ووضعها في مِحرابهِا المُلائم ،حيثُ انتكسَ الفكرُ عن صواب اتجاهِ بعض المفاهيم الرائِجة والمُؤثرة نتيجة العَولمة ،وتأثيرها الكبير على صِبغة الفكر والشخصيّة الإسلاميّة ،بالإضافة لقلة الوعي وتَفَشي الجهل بالعلوم الإسلامية والشرعية إلاّ من رَحِمَّ ربي.

ومن ضمنِ هذهِ المفاهيم المقصودة : "الثقة بالنفس" / "قوة الثِقة بالنفس"،

حيثُ لَاقى هذا المصطلح اهتمام الباحثين والمُفكرين في العلوم الإنسانية المختلفة في القرونِ الأخيرة ؛لِتمتلئ وسائل الإعلام وتَعُجُّ مواقع التواصل الإجتماعي بضجيج التنمية البشريّة ومئات النصوص والمقاطع المرئية والتي تَحُثُّ الإنسان على أهميّة "الثقة بالنفس" ؛لتكون حياتهُ ناجحة وسعيدة وَوَديّة كما يَدّعون !!.

فما مدى صِحة هذا الادّعاء وصوابهُ ،وما البديل ؟!.


عَنْ أبي بَكرة قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ) رواه أبو داود ( 5090 ) وحسَّنه الألباني في " صحيح أبي داود" . ورواه النسائي ( 10405 ) من حديث أنس ، وحسَّنه الألباني في " صحيح النسائي " : أنه يقال في الصباح والمساء.





ماذا تعني الثقة بالنفس ؟


إنّ المصطلح اللغويّ للثقة يعني :العَقد والرّبط والإحكام والإعتماد على الشيء بحَدِّ ذاتهِ ودونَ غَيرِهِ .

والثقة بالنفس هي الاتكاء وربط السبب والمُسبب بهذهِ النفس الضعيفة والواهِنة والتي تُقتَرِن بمواطن الضعف والقوة حتى تعجب بنفسها عجب مُهلك ومُفرط .فما جُبِلت النفس إلاّ على النقص والعَجز والحاجة الفطريّة الدائمة لِخالق يُعبد ويُركن إليه ،والكمال لله وحده !.قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فاطر/ 15 .

كما أنّ الله عزّ وَجَلّ إذا أرادَ خُذلان عَبْد وَكَلَّه إلى نَفْسِه . وهذه عُقوبة مِن عُقوبات الذُّنُوب.

فقالَ ابن القيم -رحمهُ الله- في ذِكْر عَقوبات الذُّنُوب: "فَيُنْسِيه عُيوب نَفْسه ونَقصها وآفاتها ، فلا يَخْطُر بِبَالِه إزالتها وإصلاحها".

وأيضًا : "فَيُنْسِيه أمْرَاض نَفسه وقَلبه وآلامها ، فلا يَخْطُر بِقَلْبِه مُدَاواتها ولا السَّعْي في إزالة عِلّلها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد و الهلاك ؛ فهو مَريض مُثْخَن بِالْمَرَض ، ومَرَضُه مُتَرَامٍ به إلى الـتَّلَف ولايَشْعُر بِمَرَضِه ولا يَخْطُر بِبَالِه مُداواته" .

فالتوغل في هذا المفهوم والاتكاء عليه يولّد أمراض نفسيّة وأمراض القلوب (كالغرور والكِبْر والإعجاب بالذات ،وغيرها...).فالأصلُ أن تشعر بما وهبهُ الله تعالى لكَ من صفات حسنة ،وتعمل من خلالها لتطوير نفسك وما فيه خير لكَ ولأمتك ولدينك ،فإن أسأت استعمالها وتسير ما هو حسن بداخلك ،أصابك الغرور والعُجب ،وهما مرضان مُهلِكان ،وإن أنتَ أنكرت تلك النِعم ،أصابك الخمولُ والكسل وأضعت



قال الشيخ : علي بن خضير الخضير - فك الله أسره - في كتابه المسمى بالوجازة في شرح الأصول الثلاثة :

" مسألة " ما حكم الثقة بالنفس ؟ فيها تفصيل :

إن كان ( معنى يجب أن تثق بنفسك ) بمعنى أن تعتمد عليها فذا لا يجوز لأنه من الاعتماد على الأسباب ، وإن كان معناها أي أنك مجرب لهذا الأمر وتعرف من نفسك التجربة وأنه سهل عليك فهذا جائز ." مسألة " ما حكم قولنا هذا الرجل موثوق يجب أن تثق به فيه تفصيل إن كان المقصود أنه أمين ولا يخون ويقوم بالعمل كما ينبغي فلا شيء فيه وجائز . أما إن كان بمعنى الاعتماد عليه وأن النتيجة سوف تحصل فهذا من الشرك الأصغر .

ومما قال د. محمد بن عبدالله الخضيري في صُلب الموضوع :"إن كان الأمر يرجع إلى اطمئنان الإنسان لما يملكه من خبرات وقدرات علمية، أو إدارية، أو مهنية، وبسبب خبرته، وطول دربته بحيث يملك مثلاً الجرأة في التحدث، أو القيام بعمل معين يتقنه، فهذه ونظائرها لا يظهر فيها بأس.أما الممنوع فهو تزكية الإنسان نفسه واعتقاد ثقته بإيمانه وعمله، وأنه آمِنٌ وواثق من الفتنة، أو زيغ القلب؛ فهذه المعاني وأمثالها لا تتفق والأدلة الشرعية الدالة على المنع من التزكية "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" [النجم:32]، وحال النبي –صلى الله عليه وسلم-ودعاؤه بالثبات حيث كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي (2140)، وابن ماجة (3834) من حديث أنس – رضي الله عنه - وعلى هذا سار السلف في اتهام النفس، والحط عليها والإزراء بها خوفاً من التعاظم والعجب والغرور. والله أعلم.


تطبيق عملي للربط بين الثقة بالنفس ومعرفة قدراتها والتوكل على الله :


  • وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال :من يأخذ مني هذا ؟

فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا أنا

قال :فمن يأخذه بحقه ؟

قال :فأحجم القوم فقال سماك بن خرشة أبو دجانة :أنا آخذه بحقه.

قال :فأخذه ففلق به هام المشركين .

فهذا ما نسميه معرفة قدرات النفس ،والإحجام ليس فقداً للثقة بل رَويّة وتأني ودراسة لقدرات النفس .

  • إذا قال شخص أنا ما أستطيع أن أدخل الامتحان أو أنجز هذا الأمر أو اتخلص من عادة سيئة ..

لا نقل له : توكل على الله .. وحسب .

بل نقول : ثق بقدرتك واعمل بالسبب وأقدم متوكلاً على الله.

((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ))

((أي بعد المشاورة اعتمد على حول الله وقوته ، متبرئاً من حولك وقوتك)) .كما في تفسير السعدي .

فلا يكن التوكل هنا إلا مصاحباً للإقدام في العمل ، بينما الثقة في النفس تكون قبل هذه المرحلة والعملية تكون تكاملية ،فإذا غابَ السعي والأخذ بالأسباب أو الثقة والتوكل على الله تحول بالنقص والخلل ،فإما يجتمعا سَويًّا وإما فلا. والله تعالى أعلم .

ولذا نقول : أن الثقة بالنفس توافق التوكل ولا تعارضه أو تناقضه ،وإنما يُكمل كُل منهما الآخر .


غزل هديب

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

@حنانًا جمَّل الله أيامك وخُلُقَك.

إقرأ المزيد من تدوينات غزل هديب

تدوينات ذات صلة