إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَِذى ظََمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه؟!.

كثيرٌ ما يَسعَدُ الإنسان بلحظاتٍ خاطِفة في حياتهِ ويَظُنُ أنّ سعادتهُ تَحومُ في أرجائِها ؛فيسعى بجوارِحهِ وكُلِهِ لاهِثًا نحوها ،وعند حصولهِ عليها يَعتادُها ،فَيَمَلُّ منها ثمّ يبدأ بالبحث مرة أخرى لِتُعيد الدوامة نفسها وفي كلِّ مرة !.

كأن تظنَ أنّ سعادتك مقرونة بالإرتباط بشخصٍ ما ،أو امتلاك غرضٍ ماديّ معين "مركبة،بيت،شركة..." او معنوي "وظيفة ،مؤلف،حساب بنكي..." ،والحقيقة أنها كلها تشترك بلذة خارجيّة مؤقتة قد تدوم لساعات ،أو أيام ،أو أشهر ثم تختفي وكأنها لم تكن ؛لتبدأ بعدها بالبحث عن مصدر خارجي يسدُّ فراغ فطري بداخلك يحتاج للسعادة !

والمشكلة تكمن في بحثنا الدائم عن السعادة في الخارج فقط دونَ الداخل وما تحتويه نفوسُنا .حيثُ وردت كلمة السعادة في القرآن الكريم بموضعين فقط ،وهما :قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)) وقال سبحانهُ : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)) ،ففي الموضعين ارتبطت السعادة بالدار الآخرة فقط دونَ الدنيا ؛ليقودنا ذلك لبديل السعادة الوهميّة المطلقة بِ السلام الداخلي .

حيثُ وردت كلمة السلام والطمأنينة في قُرآننا قرابت (31) مرة ،غيرَ مشتقاتها ليزيد العدد كثيرًا .ويدخل السلام في منهجنا الإسلاميّ وعباداتنا اليومية: فنُنهي الصلاة -بالسلام عليكم ورحمة الله- وشهادتُنا بِ-السلام على النبي وعلى عباد الله الصالحين- ،وتحية الإسلام - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته- ؛فالسلام الداخلي هو منهج حياة وهدفنا الدنيويّ. والشاهد إجماع العلماء والباحثين والمفكرين في العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة على أنّ 《 السعادة الدنيويّة = السلام الداخلي 》.

"ما يَصنَعُ بي أعدائي؟ إنَّ جَنَّتي وبُستاني في صَدري، أين رُحت: فَجَنَّتي مَعي ولا تُفارِقُني، إنَّ حَبسي خلوةٌ، وإخراجي مِن بلدي سياحةٌ، وقتلي شهادة" شيخُ الإسلامِ ابن تيميةِ

بعض المفاهيم التي تغرس السلام في النفوس :


《 اللاديمومة 》: الاديمومة تنحصر بالجمع ،حيث يقابل كل فعل وحال تتخيل نفسك فيهِ ~مقلوبهُ ؛فَعلاقاتك الفردية مع الأشخاص متغيرة وغير ثابتة فقالوا : " أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكونَ بغيضكَ يومًا ما و أبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبكَ يومًا ما " ،وعلاقاتك الجمعيّة مرحلة وتنتهي ولا تدوم سواءً بالعمل فإنك ترتحل وتستقيل ،أو بالعائلة فالأولاد يكبرون والآباءُ يموتون والإخوة كُلٌّ يَنقضِي في شُعب الحياة ،فاللاديمومة تذكرك بأن تعيش كلّ لحظة بتفاصيلها من فرح وسعادة وحزن وألم مع عائلتك وأبنائك زوجتك وفي عملك؛ لأنها لحظات ستندثر ولن تعود .فكن سعيدًا فيها بكل مشاعرها المُبعثرة وعلى أيةِ حال .

يكمن جوهر اللديمومة في تحقيق السلام الداخلي بِ "اللذة والألم" ،فعندما تؤمن بأعماقك بعدم دوام لذة معينة بحياتك فلن تستكبر بها ولن تتعلق فيها إذا خسرتها ،وكذلك الألم والقِذى والفقر والمرض والحرب والفقد والذي تمتلئ حياتنا بهِا، فإيمانك بالفرج وعدم ديمومة هذه الآلآم يُحصنكَ من الحزن والإكتئاب وتبعياته من إدمان الكحول والمُخَدِرات والإنتحار وما شابه ذلك. فإذا تعايشتَ مع هذا المبدأ على أنهُ سُنَّة كونيّة ولم تتعارض معهُ ستنال الإستقرار النفسيّ .


《 اللاتعلق 》: عندما تستشعر باللاديمومة للأشياء من حولك ،تلقائيًّا يقودُ بكَ الأمر إلى عدم التعلق لا بالأشخاص ولا الأشياء ،فمهما واجهت من الفقدان يبقى السلام مُغرمًا في صدرك ،لأن (كُلّ من عليها فانٍ) والدنيا ليست بدارُنا فما نحنُ إلاّ زوار ،واللُقيّا في الجنان تحت ظلِّ عرش الرحمان .

حيثُ يوجد تمرين جميل لإتقان هذا المبدأ بجوارِحك وهوَ أن تتبرع بشيء يكون الأغلى على قلبك وأثمنها مهما بدت للآخرين دون قيمة .ولا تعلق قلبك غير بالله ،فعندَ فناء الكون (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)).


《 الملكيّة 》:حيثُ تستشعر بصميمك أن كل شيء خُلِقَ في هذا الكون لله وحده سبحانه ،وكلُّ ما بحوزتك هو لله ولكنه وضعهُ بيديك .قال تعالى :(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) ،فهو يملك ما تملكه سبحانهُ ،وإيمانك بذلك يُهون عليكَ مصيبتك إذ فقدت ما بحوزتك ،ويهون على الفقير مصيبتهُ بعدل الله في توسيع الأرزاق ورزقه مما لا يحتسب .


《 اللاملكيّة 》:وهو بِمقال مُلكيّة الله سبحانه المطلقة وافتقارنا إليه ،فنحنُ الفقراء إلى الله ،وما دامت القلوب مُعلقة برحمته وسكينتهُ تعالى وتنزههَ عن كل عيب. وهذا ما نردده في كل مصيبة تصيبنا لتخفف عنا فنقول : قال تعالى:(وبشرِ الصّابرينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)) ،فإنّا لله وإليه ترجع أمورنا وفرج مصائبنا من المجاعات والفقر والحروب واللجوء والتشرد والظلم والقهر والفتن والتي سببّها البشر لأنفسهم لِجشعهم وقِلة حيلتهم فإنا لله وإنا إليهِ راجعون.


يقول بديع الزمان النورسيّ :السعيدُ ليسَ من وِجِدَ في ظروفٍ معينة ،لكن السعيد من لديه قناعات داخلية معينة ليتعامل مع ظروفهُ الخارجيّة أيًّا كانت .

غزل هديب

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

غزل هديب 💙💙وفقك الله لما يحب ويرضى

رضيَ الله عن الأستاذة آلاء وارضاها ❤

حُبًّا وكرامة عزيزتي ندى🧡

إقرأ المزيد من تدوينات غزل هديب

تدوينات ذات صلة