بين الحقيقة و الوهم خيط رفيع يقف وسطهما عقلك ... فلن تعرف هل ما عشته حقا واقع أم خيال ....
كانت احدى جلسات البوح ، التي جاءت على حين غرة .
كان أكثر هدوءً وأكثر تجاوباً على غير عادته ...
-كيف لكَ أن تتوهمَ مشاعركَ فأنا أعيشها كما هي وقت سعادتِي أفرح كأن لا حزن بعدهَا، ووقت حزنِي أحزن كأن لا سعادة بعده.
-عندما لا يُرضِينا واقعنا نجرعُ أكاذيب الخيال .
-نعم، لكن ما مدى تأثيرُ هذه الجرعات فَحبل الأكاذيبِ قصيرٌ والخيالُ ليس إلا سَرابا ما يلبثُ حتى يتلاشَى أمام الواقِع ،
أَليسَ الرضا شأنُ الانسان وليس شأن الواقع، فلو نظرنا فلا أحدَ منّا يرضِيه واقعُه ، ولكن هو منْ يرضَى عليه كيفما كان ،
حسب ما أرى.....
أنتَ تتعاطَى من هذه الجرعاتِ حدّ الثمل ... فلا تَستطيعُ تفريقًا بعدها بين الحقيقة والوهم ..فحتى الخيالُ الذي نسجتهُ وصدّقته لم يعدْ يُرضيكَ في النهاية .....
-أصبح الخيال من يجعلني جرعة في حضرته يثمل بِي،
أصبحتُ حبيسه ولا مفرّ لي منه بعدما كنت أفر إليه ،أصبحتُ رهينتُه الأبدية ،أصبح يستمتعُ بي هو الآخر ....
- والآن بعد أنْ أكدتَ بنفسك
أستسمحُ للوهم بأن يسيطر عليك؟؟
-ليس بالسهولة التي تظنين ، فبدايات الخيال مُغرِية أمام واقع لا نريده .
-أنا لا أظن بل أُأكد لك بأن الرّضا وعيش واقعك أفضل بكثير أو لنقل أقل اِيلامًا لك من خلق خيال تَهِيم فيه ،انت لا تفعل شيئا سوى تعذيب روحك أكثر...
-أَترينَ تللك الفتاة الصغيرة التي على يسارك أرأيتِ ماذا تمسكُ في يدها
- لحظة لأرى جيدا ... أهذا حجر ؟!!
-اِنها تضغظ عليه في قبضةِ يدها باحكام عند عبورها في كل مرة للطريق ، أَتعلمين لماذا ؟ تسدّ به فراغَ يَد والدها . تخشى أنْ تحُط رجلها الطريق ووالدها لا يمسك بيدها ليُوصِلها للمدرسة ويعيدها، في كل مرة كانت تفعل هذا
كانت تتجرع الخيال عندما آلمتها الحقيقة . إنها احدى بدايات الوهم المُغرية...
يوم سألتُها عن ذلك أَجابتني دموعها قبل كلماتها، كنت أنا أول من اخترق وهمها وذكّرها بالحقيقة البشعة أنّ الذي في يدها حَجرًا وليست يَد والدها التي لم تمسكها عند آخر مرة ودعته فيها ، ولن تُمسكها ابداً .في ذلك اليوم شَعرتُ بضيق شديد لأني أزحت عنها خيالها لترى لتدرك أن جرحها العميق لم يلتئم وألمها وحزنها لم يختفي.
-ما الحقيقة المؤلمة التي ستدركها اِن تخلّيْت عن وهمك الذي أصبحَ يتحكم بك كدُمية.
-كان يجدُر بكِ أن لا تسألي ...
إن سألتموني ما أصعب شيء، أقول لكم أن يحسب الانسان انّ كل ما عاشه في الحياة هو حقيقته، ثم يدرك أنه لم يكن سوى وهما ،كان يعيش داخل أفكاره يتضارب معها وينسج أحداثا ثم يرتديها كحقيقة لا مفر منها .....
قدرة الشخص بأن ينسلخ تماما من الواقع ليعيش الخيال ...هي موهبة و نعمة يحسد عليها .... ولكنها نقمة وعذاب عند البعض منهم ... وهذا متروك لنوعية الخيال نفسه ... لا تفكر للحظة بأنك قادر على نسج خيالك والتحكم فيه دون قيود، وهذا أكيد لن تستطيع عليه في واقعك .... بل لك في الأول تلك الصلاحية في توجيه خيالك بعقلك الواعي ... وهذه هي المتعة الخيالية الأولوية ...لكن مع الوقت ستفقد تلك الصلاحية .... ويتكفل عقلك الباطن بأفكاره الدفينة التي ربما لا تعرف عنها شيئا .... باستلام عجلة القيادة ....
انسلاخك من الواقع يصبح أسرع وأسهل من أي وقت مضى... ستشعر بواقعية المشاعر أكثر ...ستختلط وتمتزج بالخيال حد التجانس فلا تعرف تميز بين الحقيقة والخيال ....
ليس سهلا اقناع من يعانون من هذا بأنه نوع من انواع الهروب اللامجدي ...وفي مراحل متقدمة مناقشتهم في الأمر لا فائدة منها، فمعنى الحقيقة متضارب عندهم، لايوجد معنى لحقيقة مطلقة لديهم ... وهو كذلك في الأصل ...
فهم مختلفون ويعشقون اختلافهم ، بل ويستمتعون بألمهم لا يستطيعون التخلي عنه و هو جزء منهم .فحتى في خيالاتِهم يحرصون أن يعيشوا قدرًا أكبر من الألم ...
تقولون لي ما الفرق اذا بين واقعهم وخيالاتهم ؟ .... وأنا أقول لكم، بأن الهروب هنا ليس هروبا من الألم، بل هروب من الحدود ، الفرق بين الواقع والخيال أن الخيال لا حدود فيه ،لا نهاية ولا بداية تحصره، لا مكان ولا وقت يضبطه....
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات