إنَّ بناء علاقات قوية مع محيطنا الداخلي، يمنحنا الصحة الجسدية والعقلية، ويحمينا من الامراض ويمنحنا عمرًا أطول

في الخامسة والسبعين من عمرك، خضّتَ حياةً مليئةً بالتجارب، وجمعتَّ حكمة سنواتٍ طويلة، واجهت الصعاب وتغلبت عليها، واختبرت أياماً جميلة وأخرى حزينة. خسّرت وكسبت، نضجتَّ وندِمت، وتعلمتَ الكثير؛ لكن، بعدَ كل هذه الأعوام على وجه البسيطة، لو سألكَ أحدهم؛ "ما هو سر السعادة والصحة؟ ما هو السر الذي لو عرفهُ بنو آدم وحواء؛ سيُمكنهم من عيش حياة أفضل؟"، فهل ستمتلكُ الإجابة؟

في أطول دراسة عرفها التاريخ تحت اسم (Harvard study of Adults development)، تتبعت جامعة هارفرد بدءًا من عام 1938 حياة 268 طالبًا في عامهم الدراسي الثاني، ولاحقًا شملت الدراسة مجموعة أخرى من مدينة بوسطن؛ وبالتحديد من الأحياء الأشد فقرًا والأكثر عرضة للمشاكل. ومع مرور الأعوام انضمَّت الزوجات والأبناء إلى الدراسة التي تم فيها جمع آلاف المعلومات عن المشاركين ودراسة حياتهم وتتبع مسار نجاحاتهم وإخفاقاتهم بالإضافة إلى دراسة تقاريرهم الطبية وعمل مقابلات شخصية معهم ومع عائلاتهم، وتسجيل كل ما مروا بهِ من تقلَبات وتغيرات.


خلال الأعوام الطويلة، التي شملّت ثلاثة أجيال من الباحثين وأربعة مدراء للدراسة البحثية، شهدَ القائمون على هذه الدراسة، تغيُر مسار حياة الكثيرين، فمنهم من ارتقى من أشد أحياء بوسطن فقراً إلى حياة مليئة بالغنى والرفاه، ومنهم من تدهورت حياته وخسر كل ما يملك. آخرون وقعوا في فخ الإدمان على الكحول والتدخين، وبعضهم أُصيبَ بأمراض عقلية مثل الإنفصام والبعض الآخر عاشَ حياة صحية وسعيدة وحققوا نجاحات باهرة ومن ضمنهم الرئيس السابق للولايات المتحدة بيل كلينتون.


في الأوراق البحثية وقواعد البيانات التي تم جمعها على مدار أكثر من 75 عاماً، خلاصة حياة مئات الرجال، والذينَ تغيرَت حيواتهم بطُرق غير متوقعة، فما هي العوامل التي أثرَت في النجاح والصحة والسعادة والحياة المستقرة؟


كشفت الدراسة - في نتيجة غير متوقعة - أنَّ الصحة والسعادة تتأثر تأثراً قوياً بنوعية العلاقات التي يملكها الإنسان مع عائلته، أصدقائه ومجتمعه. فكلما كانت علاقاته أقوى وأعمَق؛ يتأخر التدهور الجسدي والعقلي، ويصبح الإنسان أكثر رضى وسعادة. بغض النظر عن العوامل الأخرى مثل المال، والشهرة، والطبقة الاجتماعية، ومعدل الذكاء، والجينات. وكانت هذه النتيجة مماثلة لدى المجموعتين؛ طلاب هارفرد والرجال من مدينة بوسطن.


عندما وصلَ بعض المشاركين الذين بقوا على قيد الحياة إلى عمر الثمانين، قام الباحثون بمقارنة البيانات التي تم جمعها منهم في عمر الخمسين، ووجدوا أنَّ الذين كانوا أكثر رضى عن علاقاتهم في عمر الخمسين، هم أكثر صحة في عمر الثمانين من غيرهم. والعلاقات القوية لا تعني بالضرورة عدم وجود خصامات أو مُشادات؛ لكنها تعني أن الأشخاص يثقون ببعضهم ويمكنهم الاعتماد على الطرف الآخر في وقت الصعاب.


عالمياً، هناك 5 بلدان يعيش فيها السكان أعمارًا أطول من متوسط الأعمار في باقي العالم وهي: اليابان وبالتحديد في جزيرة أكيناوا المعروفة باسم أرض الخلود، وإسبانيا، وسنغافورة، وسويسرا وكوريا الجنوبية. وهناك العديد من العوامل التي تلعب دوراً مُهمًا في تحسين جودة الحياة في هذه البلدات؛ ومنها طبيعة الحياة والطعام والمناخ، لكن أحد العوامل البارزة وجود علاقات اجتماعية قوية.


ففي أكيناوا، يتميز المجتمع بتماسكه ووجود دوائر اجتماعية نشطة بين المسنين، وانتشار فلسفة الإيكيغاي ( Ikigai ) والتي تعني إيجاد هدف ودافع للحياة، يجعل الإنسان متحمسًا لبدء يومه. وفي سنغافورة، تنتشر المنتزهات التي تُمكِّن السكان من ممارسة الرياضة وتقليل مستويات التوتر. وفي كوريا هناك ميل عام لدى السكان نحو الاختلاط بالآخرين عوضًا عن العزلة، فنرى مثلاً أنَّ الحمامات العامة المعروفة باسم الساونا، والتي يتجمع فيها الناس للتسلية والاختلاط منتشرة بكثرة.


في هرم ماسلو للاحتياجات، تأتي الحاجات الاجتماعية ( الصداقة والعلاقات الحميمة والأسرية )، تأتي في المرتبة الثالثة بعدَ الحاجات الفسيلوجية والحاجة للشعور بالأمان. حيث أنَّ الحاجة للإنتماء وللشعور بالقبول والحب من الآخرين، وبأنَّ الإنسان جزء من مجتمع أكبر منه، تساعده على التخلص من القلق، والاكتئاب، والتوتر وتحميه من العديد من الأمراض النفسية.


إنَّ بناء علاقات قوية مع محيطنا الداخلي، يمنحنا الصحة الجسدية والعقلية، ويحمينا من الامراض ويمنحنا عمرًا أطول. لكن بناء علاقات إنسانية مع المحيط الخارجي ومع كل من يختلف عنا ولا يشبهنا، يمنحنا منظوراً مختلفاً نحو العالم، ويجعلنا نرى الآخر على أنه إنسان مثلنا، يمتلك أحلامًا وطموحات، ويحُد أيضاً من العنف وجرائم الكراهية؛ التي دائماً ما يشير فيها المجرم إلى الضحية أنه شيء، على أنه لغة، أو لون، أو جنس، أو دين، لا على أنه إنسان مثله.

يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع ابن خلدون: " الإنسان كائن اجتماعي، وإذا كان الإنسان اجتماعياً بطبعه، ومتميزًا بالعقل، ولديهَ من حاجات الحياة المعروفة و الضرورية لبقائه، ما لا يستطيع أن يلبيها بمفرده ولهذا كان التعاون داخل الجماعة، والتي كثمرة من ثمار تعاونها أنتجت الحضارة". نحتاج إلى البشر من حولنا، لنبني الحضارات، ونبني أنفسنا أيضاً.




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات تسنيم معابره

تدوينات ذات صلة