هذا السؤال البرئ في ظاهره، الخبيث في باطنه الذي تسأله لك إحدى الجارات او احدي المعارف بابتسامة صفراء وفضول شديد،

وما أن تخبرها باختيارك، حتى ينهال علي راسك النصائح والتحذيرات التي وصمت بها مجتمعاتنا الآن.


اخترت القسم العلمي، فيا ويلك من تضييع وقتك باللعب والمزاح ، انسي كل من حولك واعتزل، تتساءل وما به الاعتزال ن كنت سأعتزل ما يؤذيني .


فأجيبك بشفقة هم لا يقصدوا ذاك الاعتزال الاختياري مثلاً، بل ذاك الاعتزال الاجباري للجميع حتى تنهي ثانوياتك و تجتازها بنجاح، وبعدها تعود لمجتمعك الذي ابعدت عنه طوال العام، وهكذا الأمر حتي تنهي سنين الثانوية العامة.


هذا الوحش المخيف الذي ما ان يُسمع به حتي تتردد على الألسنة الدعوات وتحوط الطالب نظرات الشفقة له ولأسرته كلها ،فهذا الوحش يلتهم كل الساعات المرحة التي كانت تقضيها الأسرة في العطلات وتلتهم أموالهم وما يدخرون لينفقوه على الوحش الاخر المنبثق من الاول، هو" الدروس الخصوصية " ، والحديث عنه يطول، نؤجله مقال آخر.



و إن اخترت القسم الأدبي، تختلف ردة الفعل قليلاً ، ان كنتِ فتاة فستجدين نظرات الاستحسان و التأييد والموافقة، فأنت بالنهاية ستتزوجين وتنجبين وستنشغلين لتربية الأبناء ، و لن تجدي وقتاً للعمل بشهادتك ولن تكوني بحاجة لشهادتك، هذا من وجهه نظرهم طبعاً.

اما إن كنتَ شاب ستجدها تضييق عينها وتسألك بحذر عن مجموعك الكُلي أولاً، لتعلم مقدار تفوقك الدراسي.

و ان كانت متوسطة أو ضعيفة، فستنظر اليك بشفقة وعينيها تقولان " حسرة عليك " فلن يشار لك بالبنان، فأنت لن تدخل اياً من كليات القمة .


وإذا كنت نجيباً وقد حصلت علي مجموع كبير و بإستطاعتك اختيار القسم العلمي ، ولكنك لن تختاره فستجدها تمصمص فمها بعجب ،و عينين متسعتين، وهي تضرب على صدرها وترطم بالكلمات الحانقة بسرعة وهي تؤنبك كأنك مجنون ،فكيف تختاره وأنتَ النجيب المتفوق و باستطاعتك ان تصبح طبياً أو مهندساً " قد الدنيا كما يقولون بالعامية المصرية !! ".

وكأنه غير جائز أو مقبول، أن تحب اياً من تلك الأقسام الأدبية وترغبه، وانت الذكي النجيب!




أو يقنعوك ان كنت مُصراً أن تختار إحدي كليات القمة من القسم الأدبي كالألسن، اقتصاد علوم سياسية، فنون جميلة ،او اعلام .

فاذا لم تفلح أن تصبح طبيباً او مهندساً فينبغي عليك أن تكون اعلامياً أو أي كلية لها بريق تعطي مكانة اجتماعية بين الناس، يشيرون إليك بفخر .


و إن اخترت بالفعل احدي الكليات النظرية، كالتربية ،الآداب ،التجارة، او الحقوق.

اياً كان سبب مجموعك أو شغفاً به، فسينظرون اليك بتحقير احيانا واستهزاء حينا آخر.. فهل يعتبر ما تدرسه شيء بجانب ما يدرسه صديقك بكلية الهندسة، او الطب مثلاً !


وبعدها ستجد نفسك مضغوطا ً من قِبلهم ،لأنهم اكتشفوا انه باستطاعتك أن تنال وظيفة ومكانة مرموقة، إن كنت من أوائل دفعتك واختاروك لتصبح معيداً بتخصصك ثم بعدها دكتور جامعي، فقط عليك أن تبذل الجهد لتنل ذلك.

وهكذا عدنا للالقاب مجدداً والشغف بها، وكأننا لم نعد نستطيع ان ننال اي احترام بدونها بمجتمعاتنا!


فمتى نكّف عن هذا التحقير لكل ما يمس الآداب بصلة .. و عدم اعتبار جامعاتها من كليات القمة!

" كليات القمة " تلك الكلمتان التي اخترعتها مجتمعاتنا و وحاذت بها بعض الكليات فقط!


من يترافع عنك ايها الطبيب الحاذق ان لم يكن ذاك المحامي الهمام ، خريج الحقوق وهي من الكليات الأدبية بالمناسبة!

.

ومن يساعد طفلك بتعديل سلوكه إلا من كانت اخصائية نفسية… او من يساعده في النطق السليم، إلا وكان خريج قسم صوتيات،وكلها كليات أدبية !







في السنة الأولي للثانوية ، ساعدني قليلاً تقسيمة الفصول الدراسية على معرفة المواد الدراسية التي سأدرسها بكل تخصص .


فقد كان الفصل الدراسي الأول كله مواد علمية، والثاني كله مواد أدبية ، وبذلك في نهاية العام يستطيع الطالب معرفة اياً من التخصصات أحب بناءً علي دراجته التي احرزها .


ولكن للعجب كانت دراجتي متقاربة لحد الدهشة، فوقفت بحيرة افكر ماذا اختار، وكيف هذا التقارب العجيب، على الرغم من ميلي القلبي وشغفي بالمواد الأدبية كالتاريخ وعلم النفس والفلسفة.. وغيرها من المواد.

فقد كنت أرى وما زلت ،ان المواد الدراسية العلمية كالكيمياء مصمتة وغير جذابة، و فيها من الحفظ القدر الكبير عن التاريخ مثلاً،لا اعلم لما السائد ان الاقسام الادبية، اقسام مملة او مليئة بالحفظ وعدم الفهم والعكس بالعلمية.


هذا ليس تحيزاً بالمناسبة، فقد جربت التخصصين،و اري أنهما مشتركين بالصم والتكرار، فبدلا عن حفظك آراء حكماء وفلاسفة، ستحفظ معادلات ورموز رياضية وكيميائية لا تفيدك بالواقع في شيء، اللهم إلا النجاح في اجتياز الامتحان.

والثاني على الأقل، ستكون قد كونت وجهة نظر ورأي خاص بك مختلف عن آراء هؤلاء الفلاسفة.



وكان سبب التحاقي بالتخصص العلمي،على الرغم من ميلي للآخر، إني سمعت امرأة ذات يوم تُخبر أمي أن الفتاة ينبغي عليها اختيار كلية من الكليات الادبية حتى تنهيها في اربع سنوات وتتفرغ للزواج، بعكس الكليات العلمية التي تطول فيها سنين الدراسة أكثر كالطب مثلا!



فاستفزتني حجتها أيما استفزاز ولم اكن افكر بالزواج في ذلك الوقت، فقد كنت أرى نفسي مازلت صغيرة ومن أولوياتي العلم والدراسة ، بل كنت اتعجب من صديقاتي اللاتي كن من حين لآخر يرددن عن رغبتهن بالزواج او يبدين سعادة كبرى إذا جاءهم "عريس لقطه" ، فكيف يتعجلون تحمل المسؤولية، فالزواج ليس فستان ابيض وحفل كبير فقط.. بل مسئوليات عظيمة ينبغي علي كل فتاة أن تفهمها قبل أن تعطي الموافقة.


فاخترت القسم العلمي عناداً ، وعلى الرغم من بذلي الكثير من الجهد في المذاكرة الا اني لم احصل على مجموع كبير في نهاية العام وكانت صدمة من صدمات حياتي.

علي الرغم من اني فيما بعد، اعترفت اني لم اكن استسيغ ابدا حفظي للمعادلات الكيميائية ، وكنت اكره الرياضيات عدا مادة الهندسة ، ولم يكن امامي الا امرين اما اكمال السنة المتبقية فيه وعندها كنت سألتحق بكلية الزراعة ولم اكن اريدها أو التحويل.


و قررت التحويل الى القسم الادبي ، والله الذي لا اله غيره، بذلت ربع طاقتي وجهدي الذي بذلته في السنة الأولى ، وبفضل الله ثم شغفي بالمواد ، حصلت علي مجموع كبير ادهش كل من حولي حتي عائلتي .


وتعلمت حينها الا اهتم بحديث الناس، أو ضغطهم عليّ بأي امر من امور حياتي الخاصة، وايضاً و وعيتُ أن الشغف له دور كبير في تسهيل اختيارك، فاحسنوا الاختيار قبل أن تندموا يا أعزائي.


ونصيحه لكل اولياء الامور ارجوكم توقفوا من التقرير عن الطالب ما يريد.. و التحقير من اختياراته ، او الضغط بأي وسيلة كانت سلبية عليه تؤثر على قراراته في النهاية.


وأنت أيها الطالب المسكين اياك، ثم اياك.. أن تختار امراً من امور حياتك بناءً علي ضغط ما ،أو نكاية بفلان وعلان… اختر ما تريده ويكون به شغفك، واعدك النتيجة ستذهلك وتكون ثمرتها اسهل ما يكون.


وها قد انتهت كلماتي لهذا المقال يا قرائي الاعزاء، فأخبروني هل وقعتم تحت ضغط كهذا من قبل؟! وكيف كانت النتيجة؟!

وما نصيحتك ايها الخريج، لهذا الطالب الذي لم يختر بعد تخصصه الدراسي؟!

و انت من اي البلاد ؟ وهل توجد لديكم تلك العقليات ايضاً ام لا؟!





Reem Elwan

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

عندنا في الاردن اصبحت هذه الافكار تختفي شيئا فشيئا حيث اصبح الطالب يختار حسب ميوله و قدراته ، فليس من العار ابدا ان يختار طلب متفوق التخصص الابدي او المهني مثلا، حيث اصبحت التخصصات المهنية اوسع و اكثر طلبا ، و التضييق على التخصص العلمي من ناحية سوق العمل ر التخصصات الجامعية

إقرأ المزيد من تدوينات Reem Elwan

تدوينات ذات صلة