الخروج من غرفة الصدى، يمنح الإنسان عدسة أوسع، ينظر من خلالها نحوَ العالم


هلَ سبقَ وشعرت أنَّ أفكارك ووجهات نظرك تشبه تماماً أفكار أصدقائك وعائلتك ومن تقضي معهم جُلَّ وقتك؟ هلَ سبقَ لك وحاولت أن تخالف رأي الجماعة ممن حولك وقوبلت بالاستهجان وربما بالشتم والاتهامات؟ إذا كانت إجابتك هي "نعم" على واحد أو أكثر مما سبق، فقد تكون عالقاً في" غرفة الصدى - Echo Chamber".


غرفة الصدى حسب تعريف قاموس أكسفورد هي البيئة التي يتعرض فيها الإنسان لأفكار ووجهات نظر تعكس وتعزز أفكاره ووجهات نظره؛ حتى يظن أنَّ هذه الأفكار والمعتقدات، هي الحقيقة الوحيدة وكل ما خالفها باطل. وكأنه يتحدث في غرفة فارغة تعكس الصوت ولا يسمع إلا صدى صوته مراراً وتكراراً، حتى يظن أنه الصوت الوحيد الموجود في العالم.


يوجد حولنا الكثير من غرف الصدى التي قد نكون غير مدركين لوجودها؛ لأنها تنشأ في أي بيئة يتم فيها تبادل المعلومات والأفكار، ونحنُ في عصر الاتصال والتواصل والانفجار المعرفي ولا شيء ينتقل بسرعة وكثافة المعلومات. وهناك نوعان لغرفة الصدى؛ واقعي ورقمي. أما الواقعي فقد يتكون في المدارس، الجامعات، العائلات، مجموعات الأصدقاء وأي تجمع يحتوي على مجموعة من البشر. أما الرقمي فيصبح الموضوع أعقد قليلاً وأكثر انتشاراً بسبب خوارزميات السوشيال ميديا؛ المصممة لمنح كل مستخدم تجربة خاصة به؛ فتوصي بأصدقاء، وصفحات ومجموعات تشبهنا، وتظهر لنا منشورات نحن مهتمون بمواضيعها، ومعلومات تؤيد أفكارنا. كما تجعل عملية إيجاد أشخاص يشبهوننا في طريقة التفكير سهلة جداً. وتعمل الخوارزميات بهذه الطريقة لأنها تهدف إلى جعلنا كمستخدمين نقضي أطول وقت ممكن بينَ العوالم الرقمية ونشاهد أكبر قدر من الإعلانات التي تُعتبر مصدر دخل كبير لهذه المنصات.


تشوِّه هذه الظاهرة وجهة نظر المرء؛ بحيث يجد صعوبة كبيرة في تقبل وجهات النظر الأخرى والتفكير فيها ومناقشاتها. لأنها تجعل الإنسان يظن أن وجهة نظره - التي تم تعزيزها في غرفة الصدى- هي الحقيقة المطلقة وما دونها افتراء. وتساهم أيضاً في خلق ونشر المعلومات الخاطئة والمضلِلة من خلال ظاهرة الانحياز المعرفي أو الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias)، حيثُ يميل الشخص إلى البحث عن معلومات وتفسيرات تؤيد وجهة نظره مع إهمال المعلومات التي تعارضها، فيكون انتقائيًا في عرض الأدلة التي تدعم فكرته.


وغالباً ما نجد هذه الظاهرة عند الجماعات التي تؤيد أو ترفض فكرة أو نظرية ما، مثل نظرية التطور، كروية الأرض، وفعالية اللقاحات. حيث نجد أن وجهات النظر متطرفة، وأنَ المعلومات التي يتم الاستدلال بها منقوصة وغير شاملة. ونجدها أيضاً في الدوائر الاجتماعية المغلقة، التي تحُد من اختلاط الفرد مع أشخاص من ثقافات وخلفيات أخرى. فتصبح النقاشات عقيمة، متعصبة وغير متقبلة للرأي الآخر وأحيانًا مُتطرفة. ولهذا أيضاً نرى العديد من التصرفات التي يوافق عليها عدد كبير من أفراد المجتمع، مثل التحرش الجماعي أو الجرائم الجماعية (مع وجود أسباب أخرى بالطبع).


في العالم الرقمي، هناك نوع محدد من غرف الصدى يطلق عليه اسم " فقاعة التصفية - Filter puple" وتنشئ بسبب تعقب الخوارزميات نشاطك الإلكتروني. فتتبع كل ما تقوم بالنقر عليه أو مشاهدته سواء كان ذلك في السوشيال ميديا أو في المواقع الإلكترونية وتقوم بعرض محتوى مشابه للمحتوى الذي قمت بالاهتمام به بالفعل، أو محتوى تعتقد هذه الخوارزميات أنك ستحبه وتتفاعل معه. وهذا يمكن أن يعزلك داخل فقاعة من الأفكار ويمنعك من العثور على وجهات نظر جديدة عبر الإنترنت.


فلنفترض أنك تملك على الفيسبوك 500 صديق، لكنك تتحدث مع 20 منهم وتتفاعل مع ما ينشرونه، ستقوم الخوارزميات بإظهار المزيد من المحتوى المتعلق بهؤلاء الأصدقاء. وستحجب عنك محتوى الـ 480 الآخرين لأنها ستفترض أنك لن تتفق معهم. وهكذا فإن أفكارك سوف تتشابه مع أفكار الـ20 صديقاً وكأنكم في فقاعة واحدة.


كيفَ يمكننا أن نتخلص من غرف الصدى التي تحيط بنا من كل جانب؟


إن قضاء الوقت والتفاعل مع أشخاص يشاركوننا ذات الاهتمامات والأفكار أمر جيد وطبيعي، والوصول إلى المعلومات التي تهمنا عبرَ الخوارزميات يساعدنا في الحفاظ على الوقت في ظل الانفجار المعرفي الذي نعايشه. ولكن إذا تم حصرنا في فقاعات من هذا النوع، لن نستطيع النمو كأفراد ومجتمعات، وسنخسر العديد من الصفات التي تميزنا كبشر مثل التفهم، التقبل، والتعاطف. هل يمكنك أن تتخيل عالماً.. يشاركك الجميع ذات الأفكار ووجهات النظر؟


ظل الخوارزميات التي تحكم نشاطنا الرقمي، يستحيل أن نتخلص من غرف الصدى بشكل كامل ولكن من المهم أن نعي وجودنا فيها ونقلل تأثيرها علينا. ويمكن أن نفعل ذلك من خلال التفاعل مع أشخاص ووجهات نظر قد لا نتفق معها، والاطلاع على مصادر متنوعة لذات المعلومات التي تصلنا عبر الإنترنت، والتحقق من الأخبار التي نعتقد أنها غير صحيحة من خلال المنصات المختصة بالتحقق من المعلومات.


حسب تجربتي الشخصية، كان للسفر دور كبير في كسر هذه الظاهرة، وللقراءة دور بذات الأهمية مع تنوع القراءة بين الأدب العربي والغربي. يمكن أيضاً الاطلاع على محاضرات بمواضيع تهمنا لمحاضرين من دول مختلفة مثل فيديوهات منصة Ted التي تقدم لنا تجارب شخصية ومعلومات مكثفة في مدة زمنية قصيرة. والأهم من كل هذا، أن نعي أننا لا نمتلك الحقائق المطلقة وأنَ وجهات نظرنا قابلة للنقد وإعادة التشكيل.


إن الخروج من غرفة الصدى، يمنح الإنسان عدسة أوسع، ينظر من خلالها نحوَ العالم.. وفي هذا العصر، لا شيء أهم من أن نرى بصورة أوضح وأشمل.



المصادر:

https://edu.gcfglobal.org/en/digital-media-literacy/what-is-an-echo-chamber/1/


https://www.oxfordlearnersdictionaries.com/definition/english/echo-chamber


https://edu.gcfglobal.org/en/digital-media-literacy/how-filter-bubbles-isolate-you/1/


https://www.pnas.org/content/118/9/e2023301118


https://eeradicalization.com/ar/echo-chambers-social-media-schlegel/



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات تسنيم معابره

تدوينات ذات صلة