إن أردت معرفة نفسك، فانظر إليها في الخلوات، فإنْ زلَّتْ قدمُك عمدًا أو سهوًا، تذكّرْ أن تُداوي جرحَك فلا يتّسعْ.

خلوة


الفطرة تميلُ بالنفس إلى الائتلاف والتجمهُر مع الأحبة والأصدقاء، فيستشعرُ الواحد منّا رباطة جأشه وتعاظُمَ بأسه بينهم؛ ففي تآلُفِ أرواحٍ نلتقيها قوةٌ خفيّةٌ تنزعُ عنّا الخذلان، وتُسَرّي الهمّ عن قلوبنا المضناة بالشقاة، فما تقعُ كلمة الأحبّة فيها حتى تُزهر بالأفراح، وتُسقى بماء الأمل لتتصالحَ مع الأقدار.وأنت قد تكون بين حشود الجمع مُتباهِيًا بودادِهم، لا تهزمُك كلمة، ولا يُعجزك رأيٌ أو نظرة، تنهالُ عليك المدائحُ غيثًا من السماء، فلا تبخل بابتساماتك البرّاقة، أمّا مَجرّة كلماتك الأخّاذة فتجذبُ في مدارها إعجاب الحضور وثنائهم في مفرداتٍ تتراشقُ في وجهك قطراتٍ من الندى.ولكن ماذا عنك في الخلوات؟!وإذا بالجمعُ انفرط عقدُهم، وقصدوا إلى مقاطِنهم، وانصرفوا إلى حياتهم وأعمالهم المُتكالِبَة، هل يلازمُك البريقُ ذاتُه الذي احتفيتَ به بين أهلك وأصحابك؟!قد لا تعرفُ نفسَك حقّا.لأنّك عندها فقط تنزع عنك كل الأقنعة : قناع الفرح والامتنان والحزن والتودُّد والالتزام، وقتها تصبحُ عاريا تمام أمام الحقيقة، حقيقة نفسك التي مهما حدّثْتَ الآخرين عنها لا يعلمها إلا الله، ولن تُحيط بها كليّا إلا في ساعات خلوتك.للخلوة نقيضان عجيبان قد يتفرقان، وما أكثر ما يلتقيان، أرجوحةٌ بين النقص والكمال، تشعر بالنقص فترمّمُ نفسك، إلا أنه من النقص أن تشعر بالكمال.هي عُرِيٌّ من الزيف والمداهنات، حيث تنخلع النفس عن صاحبها لتصارحه وجها لوجه بما يدور في جَنانه ويضطرب به وجدانه، في الخلوة تخييرٌ بين الخطأ والصواب، انتقاءٌ حرٌّ بين الحلال والحرام .وقد تكون هدنةً للنفس من أعباءٍ أو أوزارٍ أثْقَلَتْها فباتت الحاجة ملحةً لاستراحة المحارب.وما أعظم تلك التي يهرولُ بها المرء إلى ربه، يتلذّذ بها بعيدا عن التبجُّح والتفاخُر أمام العباد.وكم من حسنةٍ أخفَتْ شهوةً خفية من شهواتِ النفس، كالرياء أو الغرور وحبِّ محمدةٍ عند الناس، فتُهلكُ حُجّةَ المرءِ يومَ التّلاق.فيُذهلُك أن ترى أُمّـًا تُشيد بعلمِ وأخلاقِ أبنائِها وتتباهى بمعرفة أسسِ التربية، ثم تُعينهم على الغشّ والكذب، والصديق المدّعي للمحبة والوفاء يغدرُ صديقَه بسكينٍ مسمومةٍ تعلُّقًا بمظلةٍ من الأهواء والمصالح، وقد ترى الفقير امتلأتْ نفسُه بالخير والسخاء فتفوحُ أعماله شذى بين الناس، وربما تتفاجأ بمن اعتنق المبادئ والأخلاق مُضيِّقًا بها على زوجه وأهله، قد مدَّ عينُه لما حرّم الله فأغمس في الفسوق، وسلم زمام أمره للشيطان، وقد ترى معلمًا هو أحوجُ ما يكون لتعليم نفسه قبل تعليم الأجيال.إنها الضرورة لتنشئة الأبناء وتهذيب أرواحهم في ظلّ انعدام الرقابة، وإحلال الرقابة الذاتية فيهم، فنتنبّه لغرس القيم سرا قبل أن تظهر للعلن ، وكما قيل : من علامة حُسن الخلق أن تكون في بيتك أحسن الناس أخلاقًا.فإنْ زلَّتْ قدمُك عمدًا أو سهوًا في ما سبق من السطور، تذكّرْ أن تُداوي جرحَك فلا يتّسعْ.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات سهى أبو الرب (سُقيا الظمأ)

تدوينات ذات صلة