وحيداً في عرض البحر بلا أمرٍ أو توجيه يمزق شراعه و يبدأ بالغرق.

أريد أن أكتب,

تعتريني نوازع رغبة مجنونة في أن أخط شيئاً ما , ولن أكترث بعد الآن في أيِّ حقلٍ أدبيٍّ قد يصنَّف,أنا طافحة بالحكايات,كلها مبتورة وغريبة وبعضها طفولي وأخرياتٌ خيالياتٌ ببلاهة, لكنّها تحتشد داخلي في مظاهرةٍ هوجاء ترفع شعاراتٍ و سيوفاً و مقابض بندقيات, كلها تريد أن تحكى كما هي دون حذف أو زيادة دون أن أفكر بالتجرؤ على السماح لنفسي بلمس أي جزءٍ منها ,مبتورةً و غريبة و خياليةً ببلاهة هكذا تريد أن تحكى .


ليس مهماً القاالب ,تجد الكلمات قالبها الأنسب في النهاية ,لذا سأطلقها في الفضاء و لتلتقي كلُّ حكايةٍ بقالبها كما تريد أو يريد هو, أنا وسيط نقل مجرد وسيطِ نقلٍ لا أكثر ولا أقل أحمل الكلمات من الوجود العدمي إلى العدم الوجودي أو أيَّاً تكن التسمية الفلسفية للأمر.

خذ مثلاً حكاية البحارِ الذي تاه في عرض البحر, قاربٌ صغير لا يتسع إلا له ,أخشابٌ بدأت تبلى ومساميرُ مخلعةٌ توهم القارب أنها خرجت في نزهة ,شراعٌ أو فلنقل نصف شراعٍ حائل اللون وممزق في طرفه على شكل خريطة لأرض جديدة لم يكتشفها كولومبوس و ربما لن يكتشفها بحار تائه في عرض البحر,

الموج لمجنون يضرب أخشاب القارب كمن يأخذ بالثأر تتسلل المياه إلى سطح القارب و يموج مع الماء يميناً و يساراً و البحار التائه في عرض البحر ,غارقٌ في مكانٍ ما في بحرٍ ما يخصُّه وحده ,يحدق في السماء ولا يراها و يسمع أصوات الأشياء المتلاطمة ولا يفهمها , في الخلفية تدور موسيقى الجاز و أغانٍ عربيةٌ يعزف لها على العود ,وتزغرد امرأةٌ ما ويزعق طفلٌ طالباً الطعام.


القارب يمضي فيه البحر و البحار يمضي فيه البحر , كلٌ يغرقُ في مكانٍ ما ,وأنا هنا تدور في رأسي الحكاية غريبةً و مبتورة و خياليةً ببلاهة لكنَّها تطالب بحقها في النجاة من الغرق.

يصرخ الموج مخاطباً البحار: ألا تسمع أيها الرجل ,ألا ترى قاربك يغرق؟

يسمع الرجل همهمات غريبةً تبدو كأنها قادمةٌ من الماضي السحيق ,كلمات كالغرق و قاربك ,تسمع ,ترى ,أشياء كان يعرفها ولا يعرف لو كانت لا تزال هنا .

يغرق البحارُ أكثر يُسحب بعيداً حتى لا يعود بالإمكان تتبعه ,و القارب يكافح الموجَ بيأس .

تدسُّ غيمةٌ سوداء رأسها أخيراً في السماء المحتقنة و تعلن أن وقت المطر حان ,وتفرغ حمولةَ بطنها من الماء فوق القارب ,يهتزُّ القارب و يرتعد و يميل يساراً ويعود يميناً ,يصفعه الموجُ و تصفعه الأمطار لكنْ لا يغرق بعد.


أما البحار فيغرق تسحبه الموجةُ التي لمست روحه فانفتح لها ,تملؤه حتى ينتفخ ثمَّ تسحبه معها عميقاً وتحاول إغراقه.

ينادي الموج الغاضب: يا بحار إن كنت ستغرق فلأغرقك أنا , لا تغرق بكذبةِ موج.

لا يسمع البحار شيئاً عدا صوت الماء في معدته يقرقر وكأنه يحكي نكاتاً ويضحك عليها.

تمضي الغيمة السوداء بعد أن أفرغت بطنها و تسحب معها كل احتقان السماء ,و تربت بنسمات خفيفةٍ على الموج المجنون فيهدأ .

يتوقف القارب عن الاهتزاز و يثبت في عرض البحر ,تشرق شمس جديدة ربما من الشمال هذه المرة و يطير نورسٌ فضوليٌ على مقربة من القارب.

لم يعد البحارُ هنا , رجلٌ أسمر في منتصف العمر برأسٍ صلعاء و حواجب كثة ,وبطنٌ مستديرة يجلس على حافة القارب كجذع ميت ,لم يعد البحار هنا ,والقارب وسط البحر ,ينتبه القارب للأمر ,وحيداً في عرض البحر بلا أمرٍ أو توجيه يمزق شراعه و يبدأ بالغرق.

صفاء حميد

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات صفاء حميد

تدوينات ذات صلة