"ورغم أن أعراض الجانبية لغربة المكان صعبة ومؤثرة، إلا أنها عكس غربة الزمان غربة مؤقتة"
إذا كانت غربة المكان صعبة على النفس، فغربة الزمان هي الأصعب. فقد يتعرض أحدنا إلى الانتقال من مدينة إلى مدينة أخري داخل وطنه، أو يسافر بعيدا خارج الأوطان فيشعر بأعراض غربة المكان. وأقل هذه الأعراض الاشتياق للأهل والأصدقاء وأشدها أثرًا الانطواء والعزلة الأمر الذي قد يتطور إلى الاكتئاب. وبالطبع تزداد شدة الأعراض كلما صاحب غربة المكان غربة لغة، ودين، وعادات، وتقاليد.
ورغم هذه الأعراض الصعبة والمؤثرة لغربة المكان، إلا أنها غربة مؤقتة وممكن لما يعاني منها فضها أينما يشاء مهما كانت المغريات. وقد عانيت شخصيا من غربة المكان لمدة خمس سنوات ونصف في اليابان على فترتين، ثم في أمريكا لمدة عشر سنوات متتابعة. ورغم أني كنت حريصا على قطع غربة المكان كل عام من خلال أجازه شهر على الأقل، إلا أن أعراض الغربة كانت دائما ظاهرة وكامنة حتى قررت العودة إلى الوطن الأم مصر في ٢٠١٠، حينئذ شعرت كالعصفور الذي عاد إلي عشه بعد رحلة هجرة طويلة عبر البحار. وبمجرد عودتي انتهت أعراض غربة المكان وتلاشت وأصبحت ذكريات نحكي عنها في المناسبات.
أما غربة الزمان فليست مؤقتة ولا ثابتة في شدتها، ولكنها تزداد مع الوقت ولا يمكن الهروب منها لأن أسبابها في يدك الآخرين وليس في أيدينا. ومن أعراض غربة الزمان العزلة وزهد الناس وأنت وسطهم، ودوام الشكوى من أفعال الناس وأنت معهم، والإحساس المطلق أن لا الزمان زمانك ولا المكان مكانك، تشعر بغربة التقاليد والعادات والثقافات، اشعر وكأنك جسم غريب في وطن غريب أو أنك وحيد في وطنك وما حولك غرباء. تشعر بداخلك بالرغبة في الرحيل عن الزمان رغم عمق جزوره في المكان. اشعر وكأنك انسان فقد شرعية الإنسانية، إنسان يتعلق بحبال الماضي بعيدا عن جنات الواقع، تشعر وكأن ألف انسان يمرحون بداخلك كل في طريق معاكس، وكل ممسك بقطعة من قلبك وعقلك يمزقون عمدا جوانحك.
غربة الزمان إحساس فظيع، غربة في غربة لا يعلوها غربة. غربة بأثر رجعي وليس لها دواء. هذا هو حال الزمان، كان امتلك كل شيء جديد وفقد كل شيء قديم. زمان داس بأقدام أصحابه على ما تعودت عليه القلوب والعقول في الأزمنة الماضية. زمن لم يعد لأصحابه القدامى مكان في ثقافات اليوم.
إنه تحدي كبير وعظيم لكل من عاش في جيل الزمن الجميل في المشاعر، والأصول، والعادات، والتقاليد. تحدي هائل أن يتكيف هؤلاء القادمون من الزمن الجميل مع هذا الزمن بكل ما فيه من طقوس لم نتول عليها. ولكن هذا الجيل قبل التحدي طواعية أو غصبا وكان ضريبة تحمله غربة الزمان رغم عمق الجذور في المكان.
ومازال يتشبث هذا الجيل بالأمل في التغيير وعودة العادات والتقاليد التي كانت كرائحة المسك تعطر العقول قبل القلوب. العودة إلى الشهامة والنخوة وايثار الذات، والإخلاص والصدق والمروءة والكرم والتواضع في عزة وكبرياء، والوقوف بجانب الجار واعتبار مكانه دار، والغيرة والدفاع عن الحق ولو كان على جمر، والانتماء الي الوطن قبل الذات، والحرص على الكفاح من أجل النجاح. وغيرها من العادات والتقاليد التي تربي عليها ونشأ أصحاب جيل الزمن الجميل.
ومازالت الفرصة سانحة في التغيير والعودة إلى إنسانية ورجولة الزمن الجميل، والاحترام والتقدير واللفظ الجميل للصغير قبل الكبير.
وعن هذه المشاعر كانت هذه الخاطرة سواقي الزمن.
سواقي الزمن
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات