يمكن لعالمك أن يكون مكانًا أفضل حالما تتصالح معه، لا أن تحاربه..
بتعمل ايه لما بتحس بصُداع؟ أو لو مثلًا رجلك اتخبطت وأنت ماشي؟!
في الحالتين سواء مصدع أو رجلك واجعاك أنت هتدوّر على أي وسيلة تخفف مُعاناتك اللي ناتجة عن الألم ده..
الاستجابة الطبيعية هي إنك تقاوم وتتجنب الألم ده، مفيش شخص سوي بيستمتع بالمُعاناة أصلًا.. طبيعي جدًا تبذل قصارى جُهدك علشان انزعاجك من الألم عمومًا يقل لأن الإنزعاج لوحده مؤلم والنفس لا تقدر على تحمُله..
لكن بكل أسف استراتيجية المواجهة بالشكل ده هي كويسة لأنها لحظية مؤقتة، وسيئة جدًا على المدى البعيد علشان بيها مش هتعرف تنجو من التقلُبات الحياتية اللي بتقابله وهتقابلها..
جمال العالم نِسبي، وكذلك قسوته.. زي ما ساعات تبقى الدنيا مليانة فرحة وحُب ونجاحات ، في ساعات تانية هتكون مليانة مَشقة وألم وإحباطات سواء جايين من مرض أو فَقْد أو خسارة أو حتى شعور سيء مش قادر تحدد سببه لكنه مستمر.. وكل المشاكل دي احنا البشر مُبتلين بيها من بداية الزمن.. بالرغم من بديهية الفكرة دي إلا إن الإنسان لما بييجي دوره في المُعاناة بيندهش ويستغرب!
كأنك في مطعم وعامل Order لحاجة مُعينة والـ Waiter جابلك حاجة مُختلفة عن اللي أنت طالبه.. لِنفرض إنك طالب شوية سعادة على شوية كفاح ودافعية هادفة لشيء أنت عايزه، أكيد ده بيتنافى تمامًا مع وجود مَشقة وإحباط وظروف غامضة أنت مش عارف فيها ايه اللي هيحصل بس تخيل إن ده اللي أنت طالبه قائم على مُضاده..
أنت حافظ وغالبًا فاهم إن مُعادلة التوازن اللي الكون قائم عليها بتقول إن الشيء بيُعرف بنقيضه، يبقى ليه بنستغرب ده؟ وليه إما لازم نتحكم في كل شيء سواء لينا أو ملناش فيه ومش هنعرف نغيّره؟ أو نختار استجابة الهروب من المُعاناة اللي هي أصلًا أساس النمو النفسي لكل إنسان؟!
للأسف مفيش حد معصوم من المُعاناة على الإطلاق من حين لآخر لكن..
فالتساؤل الذي يطرح نفسه هو نعمل ايه لما منعرفش نخرج منها؟ وازاي نخرج منها بأقل الخسائر؟!
وفي الحقيقة هو إدراكك لفكرة إن المُعاناة جزء أصيل من الحياة وهو أمر بيدو كئيب وصعب في بدايته.. أصله اللي هيدور في بالك ساعتها هو ايه وجع القلب ده؟ ايه الهدف من إنك تحاول تبني حياة وهي مُعرَضة للدمار تمامًا في أي لحظة؟ ايه لازمة إنك تاخد بالك من صحتك وأكلك ونومك وأنت في الآخر _ بعد عمرٍ طويل إن شاء الله_ هتنتقل لحياة أخرى أبدية؟
العلاج الجدلي السلوكي (DBT) واللي طوّرته الدكتورة Marsha Linehan حاول يقدم حل للمشكلة المُستمرة دي لحالة الإنسان وعلى فكرة مش بس العلاج الجدلي، لأ ده مُختلف العلاجات واللي من أنجحها الـ CBT برضو بتدعو للحل ده ولكن العلاج ده وضع مُصطلح جديد وجايز غريب كمان اسمه Radical Acceptance أو القبول الراديكالي يعني في ترجمتها الحرفية معناها القبول الجذري.
والباحثة هنا بتشوف إن القبول بالشكل ده ملاذ لينا لما كل الحلول تفشل أو متتوفرش من الأساس..
لما خططتك الذكية ونواياك الطيبة متوصلكش لأي شيء حاول تجرّب القبول الجذري اللي هو حسب ما الدكتورة Karyn Hall في مقالة ثرية جدًا ليها على Psychology Today عرفت فيها المُصطلح ده وقالت: القبول الراديكالي هو أن تقول "نعم" للحياة كما هي.
والحقيقة إن كلمة "نعم" دي فيها تصالُح كبير مع حقائق حياتك، لأن قبولك للحياة كان بشروطها وقوانينها اللي اتخلقت بيها مش العكس..
وللعلم الموضوع مش سهل، إنك تبدِّل فكرة أترسخّت عندك بفكرة تانية وارد تكون جديدة عليك ده أمر محتاج منك صبر ومُثابرة خصوصًا لو فكرتك عن القبول "الحذري" تحديدًا هي إنه استسلام..
منطقي تفكر ازاي نتقبل اللي بيحصل من غير تغيير؟ وازاي علم النفس اللي كاه مبني على اكتشاف مشاكلنا والتعرُف على عيوبنا وتغلُبنا عليهم بيدعو لفكرة زي دي؟ هو مش المفروض الإنسان بيتحمل مسؤولية حياته ويحقق حاجات كويسة لنفسه؟!
اه.. ده المفروض، وعلى فكرة هو ده أساس القبول الجذري، هو إنك متتنازلش عن إنك تعيش حياتك بشكل جيد، لكن هو بيقولك سيب اللي ملكش دعوة بيه ولا ليك سيطرة عليه.. عُمره ما كان بيعني إنك تستسلم لأوضاع أو لحاجات لازم تعيّرها، لكن أنت هتعرف ده منين وأنت أصلًا مش عارف ايه اللي تقدر عليه وعلى تغييره وايه اللي لازم تعقد مُعاهدة سلام معاه وتقبله كما هو؟!
القبول مش معناه إنك موافق أو راضي.. لكن معناه إنك بتشيل ضباب المقاومة من قُصادك وتتعامل مع الواقع اللي قُدامك، لا منك بتهرب منه ولا منك بتحاربه، مُسالم لفكرة إن كل شيء بيحصل بسبب ولسبب وإن كان مجهول فأنت عليك تعرف إنه مش أمر عبثي وإنه وراه درس مُعين ضروري تتعلمه ببعضٍ من الألم لكثيرٍ من النمو..
بالنسبة لكيفية تحقيق الـ Radical Acceptance فالباحثة Amanda Dodson حاولت تقدم بعض الاقتراحات حول الفكرة دي من خلال أمور حياتية وأمثلة، من ضمنها يلي:
في البداية تحاول تحدد المشكلات اللي متقدرش تتحكم فيها، وركز تحديدًا على القضايا على عاوزها تختلف عنا هي عليه لكن متقدرش تخليها مُختلفة.
على سبيل المثال :
جايز وجود شخص في حياتك له مكانة مُعينة في قلبك بس هو مش بيبادلك نفس المكانة دي،، أو جايز إنك _بعد الشر_ عندك مرض مُزمن ملوش علاج،، جايز إنك تتعايش وتتقبل حاجة وحشة حصلتلك مش هتعرف توقفها،، جايز محتاج ببساطة إنك متقدرش ترضي الناس كلها وإنك لو استمريت في المحاولة هتضيّع حياتك منك..
بعد كده تحاول تفتكر إمتى بتقاوم شعورك بالمُعاناة وازاي بتقاوم.
أحيانًا بنقاوم من خلال افتراض حلول غير قابلة للتنفيذ، أو نقاوم من إننا نعمل عصف ذهني وتفكير مُفرط في كل شيء وأي شيء لتجنُب الألم مُستقبلًا رغم إننا لسا منعرفش ايه اللي جاي، أو نلجأ لأسوأ الوسائل ألا وهب جلد ذاتنا إننا معرفناش أصلًا نمنع الألم قبل ما يحصل في الماضي..
بعد خطوة الملاحظة دي اسأل نفسك "وبعدين؟"
عملية القبول الجذري محتاجة من الواحد إنه يهدى ويعرف إن ده اللي أنا عايزه لكن ده اللي القدَر كاتبه.. وتفضل الفكرة دي جواه لحد ما يصدقها، يمارسها ويتمرّن عليها، لأن لو اللي هو فيه قابل للتغيير ربنا مكنش هيسيبه يعاني أصلًا.
آخر محطة في تحقيق القبول الجذري هي إنك تعيد توجيه طاقتك في شريط قطر التحسُن الذاتي والتعافي.. والباحثة اعتبرت الخطوة دي من أهم وأحلى المحطات لأنها مُريحة جدًا..
لما بتحس إنك مُتقبل هتلاقي نفسك بتتساءل ايه لازمة كل ده؟ ليه تاعب نفسي ومتعصب على حاجة أكبر مني و زي ما ربنا حطني فيها قادر يخرّجني منها أو يصبّرني عليها..؟
هنا _عزيزي القارئ_ أنت مش بتنكر على نفسك حق الزعل والحزن والبكاء والتألُم.. أنت هنا بتتعامل معاهم كما ينبغي بتسمح بوجودهم مش بتتغافل عنهم..
هنا أنت انهرت وتعبت لأنك إنسان، لكن مش هتلعب دور أكبر منك في تغيير أمور قدرية كانت مكتوبالك.. و دي أعظم هدية تقدمها لنفسك، وهي إنك تتقبَل وتتجاوز وأنت واعي لنفسك وواخد حقوقك كاملة من غير أي تشوهات سواء في أفكارك أو تصرفاتك.. وأنت مش بتتخطى مراحل مُهمة بدافع الفرار مش بدافع التعلُم.
في مثال عبقري في كلام Amanda Dodson بيوضح كل الخطوات دي بشكل أكثر من مُمتاز، قالت:
لو حصل وعانيت من آلام مُزمنة لسنين طويلة بالذات في فترة شبابك تحديدًا العشرينات.. طبيعي شاب بصحته وسِنه مش كبير هيحس إنه مكنش من العدل يحصلّه كده، وإنه اشمعنى هو اللي يتعب في السن ده وهو كان بيحاول ياخد باله من نفسه.. تفكيرك كله هياخد زاوية إنه مكنش لازم يحصل كده.. الأمر اللي هيأدي بيك لتفاقُم الألم لأن نفسيتك هتكون 0%..
قبولك لألمك المُزمن ده كحقيقة لازم تتعايش معاها هيخفف وطأته عليك.. هيجدد طاقتك النفسية تاني ويشجعك تلتزم بعلاجاتك اللي حتى لو مش هتعالج الألم كُليًا بس على الأقل هتقدر تستحمله.
خلاصة الاقتراحات اللي الباحثة قدمتها بتقولك إنك لما بتعرف تتقبل حياتك وآلامك فيها ده مش هيخليك تضيّع وقت في مقاومة حقائق الآلام دي وإنها كانت ضرورية.. أول ما تعرف اللي مش قادر تتحكم فيه، هتكون حاسس إنك حُر وقادر تغيّر اللي قابل للتغيير..
بعد كل ده.. هيوضح قُدامك بقى كل شيء بيعطلّك و ده اللي مش لازم تقبله.. مُعاملة غير عادلة من غيرك ليك، علاقات مفيش فيها أمل، شُغل جاي عليك وعلى طاقتك وصحتك أكتر ما بيفيدك.. اهي دي كلها حاجات قابلة للتغيير بناءًا على تصوراتك للأفضل ليك، لكن أكيد مش من المنطق إنك تقاوم اللي مفيش فيه تغيير وتيجي على اللي لازم يتغيّر ومتعملش ده..
القبول الجذري ده من خلال ممارسته هتتمَكّن من حاجات كتير جدًا جدًا أهمها تغيير نفسك ومن ثَم ما هو قابل للتغيير في عالمك بشكل هادف وفعّال.. والله الموفق.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
اسلوب سلس وعرض رائع
اسلوب سلس وعرض رائع بالإضافة لاستشهادك بالعديد من المصادر بيضفى على المقال ثراء
بالتوفيق 💙