أنت في داخلك جميل.. مُسالم.. هادئ.. أنت فقط نسيت ذلك..


فلنتخيل إننا عايشين في الجنة ونعيمها اللا محدود بقالنا مُدة تصل لآلاف السنين، ماذا لو قررنا كَبشر يعني إننا نخوض مغامرة مختلفة شوية؟! تجربة إننا نعيش حياة كاملة بكل جوانبها الكويسة والوحشة.. السعيدة والحزينة؟!

تفتكر مش هتكون شبه اللي احنا عايشنها دلوقتي؟!


هو اه بنسبة كبيرة هتكون شبهها، بس منطقيًا بالنسبة لواحد كان عايش في الجنة وقرر يعيش تجربة الحياة مرة تانية ليه هيختار يعيش في تعاسة وألم؟!

بكل تأكيد هيختار يعيش حياة أحداثها سعيدة كلها نجاحات وإنجازات وأساس الحياة دي قائم على السلام والشعور بالأمان و راحة البال..

فالسؤال الأهم هنا _ بما إنك لسا على الأرض مش في الجنة ولا حاجة_ إيه اللي مانعك؟!


في ظل الحياة العصيبة اللي احنا فيها دلوقتي فكرة السلام النفسي عامةً بقت غاية كُلنا بنسعى ليها، قليل مننا اللي بيعرف يحققها.


السلام النفسي والشعور بالحضور (هنا والآن) من خلال اليوجا والتأمل وتمارين الـ Mindfulness والصلاة في جميع الديانات تقريبًا كلها عوامل مساعدة، لكن للأسف هي مش كافي ومش شرط تحقق السلام الداخلي عندك، الموضوع أكثر عُمقًا من كده.

وكذلك برضو هو مش هييجي لما تسحل نفسك في الشُغل والمجهود الخارجي، تخيّل أنت قايم من نومك مبسوط وحاسس إنك أنت والعالم أصدقاء جدًا وفطرت فِطارك المُفضل وعملت الحاجات اللي بتحب تعملها وفي آخر اليوم وأنت رايح تنام قاعد تفكر في تفاصيل يومك اللطيف ده وأنت في حالة من الامتنان، بكل تأكيد هيتهيألك إن ايوا هو ده السلام النفسي.. بس لأ برضو..


ببساطة السلام النفسي مش بيتجاهل الألم، مش بينفي وجود إحباطات، مش بيتعارض مع وجود حُزن و وجع قلب.. السلام النفسي الحقيقي هو اللي بيحسسك نسبيًا إنك مطّمن حتى وأنت في عِز كل ده..

لجانب إن أصلًا احنا مش كل الوقت قادرين على الإنتاجية وبنفكر بشكل إيجابي، في كذا حدَث مؤسف وكذا حاجة تِقلق الواحد أكتر، حتى لو يومك بادئ كويس..


علماء النفس في مناقشة موضوع السلام الداخلي وصلوا لإن عدم الحضور في اللحظة الحالية والتفكير في أمور كتير سواء في الماضي أو في المُستقبل أو حتى في الحاضر اللي مش راضيين بالمرة عنه كلها عوامل كفيلة تضرب السلام الداخلي جوانا في مَقتل، والمُشكلة إننا مش بنكون واعيين لنفسنا كفاية علشان نتحكم في أفكارنا لما تروح في السِكة دي، فتلاقي روحك بتعاني وبتدوّر على مَخرج من السجن ده وبتنسى إن مفيش سجان غيرك..


الباحث Robert Puff في مقالة ثَرية جدًا على Psychology Today ضرب كذا مثال لمُناقشة الفكرة دي واللي غرضه منها إثبات إن التفاعل السلبي مع العالم والتركيز على الوِحش منه بس أو إننا بنسلُك طرق بنقول إنها هتريحنا وهي مش كده عاملين مُهمين قادرين إنهم يضُروزا السلام الداخلي جوانا، من ضمن الأمثلة دي:


- إنك لو قررت في الـ Weekend تاخد أجازة تستجم فيها وتفصل من كل حاجة و ده بنسبة كبيرة هيساعدك تنشَط شعورك بالسلام الداخلي وربما لفترة، لكن ماذا لو وأنت طالع الأجازة دي كانت حركة المرور زحمة جدًا؟ وحضرتك طبعًا متضايق ومُحبط فبالتالي شوية الهدوء اللي كانوا جواك راحوا..


- في مثال آخر: لو انضممت لمدرسة روحية من اللي ليهم في اليوجا والتأمل _حسب تشبيه الباخث_ مُنخرطين في سلامهم الداخلي طول اليوم، بس مين قالك إنهم مش عُرضة للاضطرابات النفسية أو إنهم يتعبوا زيك عادي؟!


- ناهيك طبعًا عن مخاوفك اللي كده كده موجودة زي الخوف من الفقد والخسارة وعدم القَبول اجتماعيًا رغم إنك شِبه بتسعى للكمال في كل شيء علشان تتجنب مخاوفك دي، طيب وهو ده كمان مش عبء بيسحب طاقتك وسلامك الداخلي اللي للأسف كل مدى ما بيقل؟!


جايز يكون من الصعب إن الإنسان يحس بسلام لما يكون في حاجات مش عارفها أو متأكد منها مُستقبلًا.. لكن مش مستحيل أبدًا، ببساطة في حاجات لو ركزنا فيها وحاجات لو افتكرناها كويس بنسبة كبيرة جدًا الشعور بالسلام الداخلي هينشط عند اللي متهيأله فقده وهيزيد عند اللي بيحاول يحافظ على وجوده..


عارف لما تكون واقف قُصاد بُحيّرة شكلها جميل وهادي و صافية و واضحة لدرجة إنك قادر تشوف القاع بتاعها ويروح شوية هوا ييجوا يشتتوا الوضوح ده؟!

أهو خد نفس التشبيه ده عليك، القوى الخارجية اللي بتمثلها الأحداث اللي حواليك والمواقف والـ Social Media والضغوط باختلاف أنواعها هي شوية الهوا دول اللي لما بييجوا بيعطلوا الشعور بالسلام جوانا.. واحنا للأسف سهل جدًا ننسى إنه في الأصل سلامنا الداخلي دايمًا موجود وإن حالة نشاطه أو هبوطه جوانا ما هي إلا اختيار خاطئ بدافع الأحداث والمواقف وغيره..

لكن عارف أنت اللحظة اللي بتقعد مع نفسك تتأمل فيها كل ده في صمت وسكون؟ عارف لما أفكارك اللي تاعباك دي تهدى؟ لما تبطّل تصنّف كل شيء على إنه ده صح و ده غلط و ده لازم و ده مكنش مفروض وهكذا؟

عارف كل ده لما يسكت نفسك من جوا هتسكت، حالة الحرب العارمة دي هتقل بالتدريج.. وهنا أنت فعليًا نفسك بقت مُسالمة بجد..


جايز الوصول للحالة دي مش بسهولة، و وارد جدًا إن بمجرد ما تنتهي لحظات التأمل الجميلة دي وترجع لدوامة الحياة تاني أفكارك هترجع زي ما كانت والقوى الخارجية اللي اتكلمنا عنها هتبتدي تأثر فينا تاني هي كمان إلى أن ننسى لحظات السلام والحضور اللي كُنّا لسا فيها من مفيش دي.. طيب نعمل ايه في الحالة دي؟!


احنا مُتفقين إن السلام الداخلي معانا في كل وقت، بيتأثر سلبًا أو بيهبط لما بنتفاعل مع العالم غلط.. لأن احنا معظمنا كَبشر أغلب الوقت بنشكّل آراء وبنصدر أحكام وتعليقات على كل شيء تقريبًا سواء بالسلب أو بالإيجاب.. للأسف كل ده بيأثر على مجهودك اللي بتبذله علشان تحافظ على سلامك الداخلي، ده اللي بيعكّر صفو البُحيرة اللي حكينا عنها من شوية..


فعلشان نحافظ على نقائها وكذلك نحافظ على حضورنا في حالة السلام الداخلي دي تعالى نجرّب نكون:

- مشاركين في الحياة بدل ما نعلّق عليها عمّال على بطّال.

- نواظب على العبادات والتمارين اللي بتعزز الشعور ده زي الصلاة والذِكر وكذلك تمارين التأمل والـ Mindfulness اللي غرضها تخلي أفكارك تهدى، توصلّك لحالة من السكون.

- نبطّل تصنيف لكل حاجة على إنها "إيجابية" أو "سلبية" وإنه أمر نِسبي.

- نشوف كل حاجة من بعيد من غير شخصنة للأمور ونسأل نفسنا: هل الحاجة دي تستدعي مننا المجهود اللي هنبذله فيها؟ هل تعليقنا ونقدنا للحاجة دي هيغيّرها؟

كل ده هيخليك تلاحظ الاضطراب اللي بيهدد شعورك بالسلام فهتاخد نَفَس عميق كده وتهدى بدون أحكام أو تصنيفات، مجرد سكوت بينُم عن حِكمة اكتسبتها وهي اختيار معاركك، وإن مش كل حاجة تستحق هدر طاقتك.

- ندرّب عيوننا على إنها تشوف حاجات تانية غير الوحِش بس وتتعوّد تشوف الكويس كمان.


دكتور Robert Puff وضّح الحلول دي بمثال رائع بيقول فيه:

عارف لما تروح Supermarket ويكون الكاشير زحمة أكتر من كل مرة لأنك رايح في آخر الأسبوع، الطبيعي إن الواحد مبيحبش الزحمة وبنزهق منها وممكن يجي في بالك تعليق ملوش لازمة زي "هو ليه مفيش عُمال كفاية؟ يعني عاجباهم الزحمة دي!!"، بدل ما تفكر كده ممكن يلفت نظرك شكل الزوج والزوجة اللُطاف اللي ماسكين إيد بعض وهما شايلين حاجتهم، أو الطفل الصغير اللي بيضحك هناك ده، أو إنهم مشغلين مزيكا حلوة، أو حتى شكل الشارع وهو هادي والجو كويس والشجر شكله حلو.. مهي كل دي حاجات جميلة كان ممكن تاخد بالك منها، حاجات بسيطة بس فرقت، مخلتكش مخنوق وأنت واقف مستني دورك، بالعكس.. كنت حاسس بسلام.. حافظت على صفاء البُحيرة اللي كنت قُدامها..


من ضمن الحاجات اللي ممكن نعملها علشان نحافظ على السلام النفسي هو إننا ناخد بالنا إن الشعور بالسلام مش بس بيتأثر بحوارنا الداخلي وأفكارنا... إلخ، لا هو كمان مرتبط بطريقتنا في تفاعُلنا مع العالم.. احنا بناخد آلاف القرارت بشكل يومي بناءً على القوى الخارجية ودي إما تقوّي أو تضعِف سلامنا الداخلي، فالحلول اللي بيقترحها أكتر من Life Coach وكذلك كتير من علماء النفس الإيجابي اتكلموا عنها، كان مؤداها بيقول:

إنك ممكن بعد ما تخلص شُغلك (أو كُليتك) وتفكر ترجع البيت مفيش مانع لو اتمشيت شوية، لو قعدت تقرا حاجة مُهتم بيها ده بشكل أكبر أفضل من إنك قاعد على موبايلك بتتابع أخبار بنسبة كبيرة غير مُهمة وبتأثر في طريقة رؤيتك للحياة الواقعية وطبعًا الكارثة الكُبرى بقى بتاعة التصنيف.. بدل كل الوقت المُهدَر ده خليه لنفسك، اقعد كده صفي أفكارك بعيد عن كل الضجة دي، وقتها شعور السلام هيتجلّى جواك..


آخر شيء نقدر نعمله بل ولازم نعمله كمان هو الوصول لمرحلة التسليم.. مرحلة إن في قوى عُليا مؤمنين بيها وهي ﷲ عز وجل، القوى دي هي الأصل في وجودنا ، قوى بتمثل الأصل في كل شيء وأي شيء، قوى إيماننا بيها هو المفتاح لكل حاجة حلوة عايزينها، قوى بتخلينا ننتصر ونتخطى كل صعب.. قوى من إله اسمه السلام وبإذنه وحده هندخل دار السلام..


في الآخر احنا طول حياتنا هنفضل نواجه مواقف ونتائج كتير، أحيانًا هيعجبنا اللي الحياة بتجيبه وأحيانًا هنكرهها، المُهم في كل ده هو وعيك لإنك مش لازم تتمسك بالنتائج والمواقف دي، ولا ضروري أبدًا تصنفها لكويس و وِحش، كفاية جدًا إنك تسمح بوجودها.. بمجرد اختيارك إنك تتقبلها كما هي بلا أحكام أو شروط الحرب هتخلص.. الهدوء هيظهر.. السكون هيتجلّى.. هتشوف أعمق نقطة في البُحيرة.. السلام هيعُم.

Rewan Kassab

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

جميل اوي وانتي فعلا مبتكتبيش حاجه وحشه♥

إقرأ المزيد من تدوينات Rewan Kassab

تدوينات ذات صلة