قصة قصيرة تمثل سيناريو مُتخيّل للأحداث التي سبقت تشييد الصرح التاريخي الشهير "تاج محل"

"يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ وِجدانُنا، كُلّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ"

أبو الطيب المتنبي



القرن الـ17م

أغرا -أُتار برادِش- الهند


لم يحدث أن اجتمعت الحاشية مبكرًا كهذا اليوم من قبل، عندما حضروا جميعهم في الديوان الملكي، بدأ بسرد ما جرى له: يا أهل مشورتي، ما جمعتكم الساعة على على وجه العجلة، إلا لأمرٍ مريب، لم أجد له تفسيراً؛ إني قد رأيتُ رؤًى غريبة، ظللتُ أراها لثلاثةِ أيام متتالية، لقد شغلت بالي، ووالله ما أظنها، رؤًى كسائر الرؤى.

في الرؤيا الأولى، رأيتُ أفيالاً تُهرعُ نحوي، من أمصارٍ شتى، تحمل أحمالاً تجلبها من أصقاع بعيدة، ثم أطلُ فأرى هنالك في البعيد ، آلاف العمال، بعضٌ يبني ويشيّد، ومنهم من ينحتون زخارف رائعة، خطاطين يخطُّون، وحرفيين يصقلون ويمرّدون. كانوا منشغلين بأعمالهم وإذا بهم يرونني فيُهرعون إلي.

في الرؤيا الثانية، رأيتُ نفسي في مكان بهيج لم أره من قبل، رأيت زهوراً بديعة في بستان، شجيراتٍ ونهرًا، وأشياء عدة، وكل ما رأيته يحوي سواداً بداخله.

في الرؤيا الثالثة، رأيت "ممتاز محل" تمسك بوردة في يدها، ترتدي وشاحاً أبيض، وعِقداً من الأحجار الكريمة في عُنُقِها، تمسكني من يدي وتقودني.

أسألها: ألى أين؟

تشير إلى صرحٍ بديع على ضفة نهر "يامونا"، وتقول: هاهنا يا مولاي. فتذبُل الوردة التي في يدها. تغمض عينيها وترقد في ذلك المكان.

...

فافتوني في رؤياي.

...

حارتْ الحاشية في أمر الملك أيما حيرة، ولم تحر له جواباً. بعد أن استطال الصمت، قال أحدهم: ينبغي علينا أن نستعين بأهل الحكمة.


جمعوهم من أطراف المدن، من مرتفعات الجبال، ومن مسارح الطبيعة، أكرموهم وسردوا لهم أمر الملك. اختلى الحكماء ليتفاكروا، كلٌ على حِدة، ظلوا يخمنون لعدة أسابيع.

وبعد عدة ليالٍ من التأملات، وعدم الوصول إلى شئ، بعد أن آيسوا تماماً، رأوا جميعهم رؤيا، اتفقو في تفاصيلها على نحوٍ محيِّر.

وفي الصباح عندما اجتمعوا في ديوان الملك، بدأ أحكمُ الحكماء الحديث، قال: لقد عرفنا تفسير رؤياك يا مولاي. لكن صف لنا الحال الذي كنت عليه قبيل بدء سلسلة الرؤى، قال الملك "شاه جهان":

حسناً، الأيامُ التي أعقبت موت الملكة "أرجمند بانوبيكم"، كانت خاويةً في نفسي من أي غِبطة، النهارُ بدا كسفرٍ طويلٍ من غير وجهة، والليل حالكٌ كما روحي تماماً، حتى نجوم السماء.. بدت خافتةَ الضوء.

ظللت هكذا حزيناً، يؤرِّقني السُهاد، ويقضُّ الحزن مضجعي لليالٍ عدة، إلى أن أتت تلك الليلة التي أسدلت فيها جَفْنَيّ بيُسْر، ونمت نوماً عميقاً.

عندما صحوت في الصباح، صحوت مرتاباً بعض الشيء، لكني لم أعبأ بالأمر كثيراً. وفي اليوم الذي تلاه، بعدما صحوت، روادتني الأسئلة، وساورتني الشكوك. وفي اليوم الثالث عندما صحوت، لم يكن هناك شيءٌ يشغل بالي، إلا أن يجد تفسيراً لرؤياه هذه المرة، حزَمت أمري، واستدعيت وزراءي المقربين على عجل.

...

قال كبير الحكماء:

بدءاً يا مولاي، الحرفيون والعمال الذين رأيتهم والأفيال التي رأيتها، مفاده أن تستقطب عمالاً مهرة، وكل من برع في أمور العمارة والبناء، ليبنوا لك مبنًى ما، والأفيال التي رأيتها، هي التي ستجلب مواد بناء هذا المبنى من أنحاء شتى من الأرض. أما المكان البديع الذي رأيته، فهو صرحٌ مهيب، وهو ما ستبنيه، والسواد الذي رأيته بداخله، فهو الموت يا مولاي. أما الوردة التي ذبلت، في يد زوجتك المتوفاة ممتاز محل، فهي حياتُها، ورقودها في ذلك المكان يعني أنه مكان قبرها.

فيا جلالة الملك، عليك أن تبني لها قبراً، لكنه ليس ككل قبر، أن تبني معلماً حضارياً بديعاً عند الضريح، يجسد جمال العمارة، ويخلده التاريخ.

***

اقتنع الملك بالتفسير وارتضاه، فشرع في بناء الصرح، على الفور. استقطب العمال، جمع مواد البناء، وعلى مدار السنوات العشرين التالية، كان البناء يسير على قدم وساق، بكل التفاصيل التي رءآها، تتنزّلُ على أرض الواقع أمامه، كان البناء يكبر شيئاً فشيئاً، إلى تمت التحفة المعمارية، ونُقِل جثمان الملكة، من مرقدها القديم إلى مرقدها الجديد، في جوف التحفة، فهدأ روع الملك.

***

قرّت عينا الملك "شاه جيهان" بما بناه لفترة من الزمن، وبعد انقضاء عدد من السنوات، رأى من جديد، سلسة من الرؤى، مرةً ثانية، هي نفسُ الرؤى السابقة، لكنها في هذه المرة، هو نفسه حلّ مكان الملكة. عرف أنها المنيّة. فكتب على الفور وصيّته، وهي أن يتم بناء صرحٍ آخر من الرخام الأسود مماثل لتاج محل، كضريحٍ لهُ بعد وفاته، وأن يصل بين المبنيين، جسرٌ يُشيّد خصيصاً لذلك، أليرمز للوصال الأبديِّ يا ترى؟

...

مَرِضَ الملك "شاه جهان"، ولم يعد يقوى على الاستمرار في حكم المملكة، أسند الأمر لأبنه الأكبر، والذي لم يدم له عز الملك طويلاً. فأخوه "أورنكزيب" استولى على زمام الأمور، وانتزع منه الملك، وصار هو الحاكم.

***

مرمياً في بقعة تحيط بها حوائط حُمر، كان أبوه ينظر ساهماً في لوحة تصوِّرُ أمَّه. هذا ما رآه في رؤياه، الملك الجديد "أورنكزيب.. أبو المظفر"، الذي انتقلت له عدوى الرؤى من أبيه.

ولأن التاريخ حقاً يعيد نفسه، جمع الحكماء كما جمعهم أبوه من قبل، وطلب مشورتهم في أمر رؤياه، ففسر له الحكماء المكان الذي به جدران حُمر، بأنه القلعة الحمراء، قلعة أغرا، ونظرة أبيه على اللوحة التي رسمت فيها صورة أمِّه، أنه سيكون في مكان يطل منه على مرقدها.

ارتضى "أورنكزيب"، تفسير الحكماء، فقام بوضع أبيه تحت الإقامة الجبرية، في القلعة الحمراء، إلى أن وافته المنية، وغيّب الموت روحه. لكنه عند وفاته، لم ينفذ ابنه، وصيته التي أوصاه بها على فراش الموت، وأن يحقق له حلمه، بأن يبني له تاج محلٍ الأسود.

"أورنكزيب" لم يفعل ما قاله له أبوه، إلا لأنه رأى رؤيا، آخر رؤيا في سلسلة الرؤى، رأى في المنام، أباه مغرورق العينين بالدموع، يشير إلى مرقد هو يعرفه جيداً، فدفنه في ذلك المكان، تماماً كما جاء في الرؤيا، بجانب زوجته.





تعليق: كما هو معروف، فإن السبب الأساسي لبناء تاج محل، هو كتعبير من الملك شاه جهان لحبه الشديد للملكة ممتاز محل، ومن الطريف أن نشير في هذا السياق إلى أن حدائق بابل المعلقة، يقال أن الملك نبوخذ نصر الثاني بناها إرضاءً لزوجته.








ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مصطفى محمدين

تدوينات ذات صلة