عن قناة سبيستون، متناولين الأثر العظيم الذي تركته في الجيل الحالي من الشباب، نرجع بنا لبرهة من الوقت لأزمنتها الجميلة.


في البُنى الأولية لـِ (لا وعْيِنا)، في الطوابق السفلى لذواكرنا، ترسخُ بثبات، حيواتٌ وشخوص، صورٌ وأصوات ، تضرب بجذورها عميقاً هُنالك، تتمدد على مساحات شاسعة بفلوات وجداننا. حيواتٌ كانت تمثل في يوم من الأيام عالمَنا كلَّه، كانت كالعالم الخارجي سواءً بسواء، كالحياة الحقيقية، و إذا تحرّيْنا الصدق، لم نكن نرى بالأساس، فرقاً بينها وبينه، إذ لم نكن نفصل ما بين الحقيقيّ والتخيُّلي، ما بين الواقع والواقع المنشود. وحتى حينما صرنا نميِّز، كنا نفرح بتلك العوالم أكثر من أي شيءٍ عداها، فقط نفرح لإحساسٍ جميلٍ يتملّكنا، لروعةٍ لا نعرف لها تفسيراً غير أنها فقط رائعة، وتصيبُنا بالسلوى. الآن غدا العقل أكثرَ نضجاً، أوسع فهماً للعالم، أحسستُ بالقيمة الحقيقة لتلك البرامج، وأزداد إدراكاً لذلك، كلما بزغت ذكراها من بئر الذكريات، كلما سمِعَ سمْعي أغنياتها عفواً، أو قادني الحنين إليها بمحض إرادتي، الأشواق التي تفتأُ تتفجّر كلما صدح الطفل بداخلنا، عواصفُ الشجن التي تتقاذفنا بلا هوادة. شوقُنا لسبيستون، شوقٌ للقيم الجميلة التي كانت ترسِّخها فينا، للرسائل المحمّلة بالمعنى التي كانت تحاول إيصالها، ولقد نجحت والله. شوقٌ لما فقدناه حينما اصطدمنا بشرور هذا العالم، شوقٌ للخير الذي افتقدناه، لكل المعاني العميقة في البرامج، ولكلمات الأغنيات التي كنا نرددها بمرح، فتتسرب فينا رويداً رويداً. "ساعِد غيركَ لو تدري، ما معنى حُب الغيرِ، ما أجمل أن تحيا في الأرض بلا نكرااان.... فلتحذر أن تُغدر، استخدم عقلك أكثر، وحدَكَ عودٌ غضٌ وطري، والجمعُ عصًى لا تُكسر"."مرةً في حيِّنا، زارنا فيلٌ ظريف، برفقٍ قالَ لنا: ليسَ هنالكَ ما يُخيف، نحنُ الخيرُ بطبعنا لا نرضى ظُلم الضعيف، لا يحيا بيننا إلا الإنسانُ الشريف، بالأخلاق الفاضلة، بالمحبة بالأمل، نسمو ننتصر على.. المصاعبِ بالعمل... "،"ما عاش الظالم يسبيكِ وفينا نفسٌ بعد، بحنيني بدمي أفديكِ وروحي تُنبِتُ مجد، هزيمُ الرعد، هزيمُ الرعد، هزيمُ الرعدِ هزيمُ الرعد"، "جيم مع بيمبوو، في الرحلةِ المثيرة.."، "جسمٌ سليم، كونفو، عقلٌ سليم، كونفو، فنٌ ورياضة، فيها إفادة، لرد الشر، لفعل الخير، لنساعد كل المظلومين". "لن أعود للوراء، لن يكون لي معهُ لقاء، لن أعود للورااااء، لن يكوون لي معه لقاء"، "شوقٌ يدفعُني لأراها، أمي ذكرى لا أنساها، لو سرقتْ منّا الأيام، قلباً مِعطاءاً بسّام، لن نستسلم للآلام"، "فالقوة في الحكمة وفي نبلِ الأفكار، لو حسبتم أنّ استضعاف العجوز والصغير، فيه قوةٌ لكم، فهذا خطأٌ كبير". "لا تبكِ ياا صغيري، لا انظر نحو السماء، إن الأمل جهدٌ عمل والجهد لا يضيع، الأمل.. جهدٌ.. عمل. تعاونتْ.. قطراات.. في قلبها نبضٌ ملئ بالحياة، تماسكت تعاونت كن مثلها." "ماذا أريد ماذا أصير، هذا هو السؤاال"، "نملك الخياَر وخيارنا الأمل، وتُهدينا الحياة أضواءاً في آخر النفق، تدعونا كي ننسى ألمًا عِشناه. نستسلم لكن لا ما دمنا أحياءَ نرزق، ما دام الأمل طريقاً فسنحيا"، "يخفقُ مرة، يفوز مرة، وليس هنالك مستحيل"، "تعاهدنا معاً على الإخلاص والإخاء، تعاهدنا غداً سنُعلي راية الفداء، عهداً بأن نكون، أقوى من الحصون، أرواحنا فدى الوطن، رخيصةُ الثمن"، "في قصةٍ تروي الكثير، الخيرُ شمسٌ لا تغيب، تظلُّ في الدنيا تنير، والشرُّ يبقى في المغيب... الخير في الأرضِ سيبقى، مَحفوظًا للأوفياء".ولو رمتُ لملأت هذه التدوينة عن آخرها من هاته الدرر، ومقالاتٍ أخرى بعد، حسبنا هذا وهذا كثير، كثرتُه بقيمته. ما زرعته فينا سبيستون، لن يذبُل، ولن يُنسى بتقادم الزمان، سيظل رابضاً في تكويناتنا الأولية، نعايرُ على ضوئه، وإن لم نشعر بذلك، كل ما يفد علينا من قِيَم، نميز على أساسه الجمال الحقيقي من الجمال الزائف. حينما أحس ببؤس العالم المعاصر، وأنجح في تبديد ذلك البؤس، أدرك يقيناً أن لسبسيتون دورٌ في ذلك، هي إحدى خطوطنا الدفاعية الأخيرة التي تعمل بصمت، ضد خيبات الحياة. قناة سييستون.. علمتنا اللغة العربية مثلما لم تفعل المدرسة، قناة سبيستون وسّعت مداركنا وآفاقنا، أثرت ملكة الخيال الخصب عندنا. قناة سبيستون.. أرست المعيار الأخلاقي واللبنة القيَمية، ما لم يستطعه جهْدُ المجتمع بأسره. الآن بعدما كَبُرت، أدركت لم كنّا ننجذب بتلك الطريقة إليها، لِمَ كنا فور عودتنا من المدرسة، نهرع إلى شاشة التلفاز، قبل أن نبدل ملابسنا حتى، منتعلين أحذيتنا، وممسكين بالساندويتش الذي أعددناه على عجل لكي لا تفوتنا ولا عُشْرُ لحظة. لِمَ كنا نُسقِط عوالم سبييتون على العالم الحقيقي، لم كنا نلعب كرة القدم متقمصين بكل كياننا، دور "ماجد" أو "بسّام"، بتسديداتنا أو برفعنا أطراف القميص إلى العواتق. لِمَ كان يظن بعضنا، أنه إن أجرينا بعض التعديلات على هاتف "موتورولا" المحمول، يمكننا أن ننادي قاعدة الديجيتال، أن نستدعي صنديد، وجلمود، وصفراء. أنهم حقاً موجودون، فقط نحن لم نفلح في التواصل معهم. لِمَ كنا نعتقد في خبايانا أن شاشة الحاسوب ستنقلنا، حتماً ذات يوم إلى عالمٍ إفتراضي. لِمَ كنا نرى في كل أطفال الشوارع عمالَ مداخن، ولم تبدو كلُ البنات المكسورات بأعيننا بائعات كبريت. الحديقة السرية التي ما فتئنا نبحث عنها، وبحثنا المستمر عن السبانخ، والذي لم ينته بسؤال بائع الخضروات عنها، لأنه حتماً كان سيقول أن الجرجير يفي بالغرض، فهو لا يدري أننا لا نروم إلا أن نصير كـ"باباي". سامي وأخوه، فرح وأختها، تلاميذُ مدرسة الكونفو، ماوكلي وذئاب الغاب، "أكيرا يوكي"، "باي"، "ساندي بل"، "سالي"، "ريمي" والعم "بيتالس"، كراش جير"، "سيمبا"، "جريندايز"، الشبح، "سوسان"، "ميغالو"، "موكا موكا"، سابق ولاحق، علاء وحيان ومنصور،..... وغيرهم وغيرهم من أصدقاءنا وأبطالنا. ...يتراءى لي أحياناً أننا -جيلُ سبييتون- بعد زمن طويل، حينما نشيخ ونصلُ مرحلةَ الخرَف، قطعاً سنخرِّف بما تغذّت به عقولنا وتشبّعت به أرواحنا، أولَّ ولوجها هذه الحياة، قطعاً سنخرِّف بأغاني سبيستون، ولن يقفه أحفادنا من ذلك شيئاً، سيدهشون، وستبدأ شفاههم بالتلعثم، ثم سيرددون وراءنا بكل عفويةٍ وحب: "ساعِد غيركَ لو تدري، ما معنى حُب الغيرِ، ما أجمل أن تحيا في الأرض بلا نكرااان...." لأن العالم لن يكون فيه مثل ذلك الجمال الذي نبعثه من أفواهنا. ختاماً أود أن أقول بكل صدق وعِرفانٍ بالجميل، إن هذا الجيل، مدينٌ بالكثير لهذه القناة.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مصطفى محمدين

تدوينات ذات صلة