ما الذي أراد أبوالعتاهية قوله في بيته "وتحسبُ أنّك جرمٌ صغير ... و فيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ"
ثمة جملٌ تحمل كثافةً دلالية، وعمقًا معنويًا، إبداعًا مدهشًا إلى أبعد الحدود. تجليًا عظيمًا لمقدرات اللغة. تلك الجمل.. لجملٌ فريدة، وستظل منقوشةً على جدران ذاكرة التاريخ، مخطوطةً بماء الذهب في أضابيره الخالدة.
...
البيتُ المبدوءة به هذه السطور، يُمكن أن يعد واحدًا من تلك الجمل المخلّدة.. بلا مراء. حروف هذا البيت تحكي عن أشياء كثيرة، تحوي في جوفها آلافا مؤلفة من المعاني.
***
يذهب البعض إلى أن قائله هو الإمام علي كرم الله وجهه، ويذهب آخرون إلى أن قائله هو أبو العتاهية.. أبو إسحق، ونحن نُرجِّح أن يكون قائله أبا العتاهية؛ لأن الملاحظ في كثير من الأحيان، أنّ أي بيتٍ أو مقولة لا يُجزم بمعرفة مصدرها، تتم نسبتها إلى الإمام علي أو الإمام الشافعي.
وهذا ليس مناط حديثنا، أي التحري عن قائل البيت، بل البيتُ في حد ذاته، القول، كما يخبرُ المثل العربي "انظر إلى ما قيل لا إلى من قال". هو مناط حديثنا، ما نحن بصدده وما يهمنا.
***
يمكننا أن نقول بملء الفيه، أنّ قائل هذا البيت بإبتكاره إياه.. أنشأ ثقبين في زمكان التأويل. ثقبًا أسود، يبتلعنا، يلفتنا بادئ الأمر بجمال البيت، يعمي أبصارنا ببريقه، فيغوينا ثم يبتلعنا بشره.
وعلى ممر نفقٍ طويل، نكون في حالة من الثمالة، وفي لحظة الإفاقة، نجدُ أنفسنا خارجين من النفق عبر ثقب أبيض، يمثِّل المخرج.. يولجنا إلى عالم من الرؤى، عالم من الجمال المهيب.
ولا سبيل لعودة الذهن إلى العالم الواقعي إلا بحمل ثقيل من المعاني.
...
في هذا البيت البديع، تم الحكي عن الإنسان، أبلغ من جميع الإنسانويات، من كل المعارف التي حاولت تبسيط مفهوم الإنسان، واحتوائه وصبّه في قالب. تمّ تشريحُه، شرحُه، تجسيدُه، تكثيفه واختزاله، بمهارةٍ وحذقٍ مرعبيْن.
لكأنّ الشاعر أراد أن يقول: إنّ الإنسان يا عالم، هو عالمٌ بحد ذاته، عالم واسع فسيح.
وحقًا ما قال؛ فالإنسان ليس بعدًا واحدًا أو بعدين أو ثلاثة ولا أحد عشر - إذا ما استعرنا عدد الأبعاد المفترضة في نظرية الأوتار الفائقة - ألفُ ألفُ بُعدٍ لا تفي شرح تعقيده.
الإنسان بتعبيرٍ ما، عوالمُ متوازية و متداخلة في نفس الآن، متصلة بشبكة خيوط خفية وظاهرة بعض الشيء. انظر لذلك التعقيد في شخصية الإنسان نفسه، في سلوكه وتصرفاته، والتفسيرات الكثيرة لمدارس علم النفس لذلك، إذا ما تأملنا وعيَهُ ولا وعيَهُ، هُوهُ وأناهُ وأناه العليا. والثنائيات التي بداخله، ثنائية الشيطان والملاك، الروحي والجسماني، الأخرويُّ والدنيوي، ...الخ. التعدد الذي بداخله - تعبير "وايتمان":"نحن نحوي كثيرين"، يشرح هذا المعنى بإيجاز.
...
أو إذا ما أسقطنا قوله على مكتشفات علم الحديث، فيمكننا أن نعتبر العالم الأكبر، هو العالم الأكبر في جسم الإنسان. بلايينُ الخلايا التي فيه، أو على المستوى الجيني.. الحمض النووي وتعقيده، كمُّ المعلومات الغزير الذي يختزنه الدنا.
وذلك العقل المدهش القادر على كل هذا الإبداع، القادر على الاستدلال والربط المنطقي، الاستنباط والتعرف على الأنماط. إدراكه للموجودات من حوله، وإدراكه لإدراكه. وتلك الذاكرة القادرة على تخزين الكم الهائل من المعارف.
ميكانيزم تكون الأحلام، والمُخيّلة.. تلك الملَكة العجيبة، وانظر لعالم الروح.. الوجود الآخر في الإنسان.
تأمل في كل ما انبثق من هذا الكائن الصغير، من هذا الجرم الصغير، كل منتجات الإنسان، منجزات الحضارة، شُعب المعرفة، الثقافة، الفنون، الآداب، الإبتكارات، الاختراعات والتكنلوجيا.... الخ.
...
رغم أننا نُقِرُّ بأن للحياة دورًا كبيرًا في تشكيل الإنسان وزيادة تعقيده، وفي بروز هذا التغاير الجوّاني والتمايع، لكننا لا نحصرها وحدها في الإطار السببي، فطبيعة الإنسان نفسها تلعب دورًا جوهريًا في ذلك الأمر بالتكامل مع دور الحياة، فالوسط أن الإنسان حفنة من هلامٍ لزج، تتشكّل وتتشكل، أبد بقاءها في قبضة الحياة، تسهم سياقات نشأتها، وخصائصها البيولوجية، في تحديد ملامحها. وتجاربها في الحياة هي التضاريس التي تعلو سطح ذلك الهلام.
***
حسب المعتقدات القديمة، يُقال أن الشعراء يُلهمون قصائدهم وأشعارهم ولا يكتبونها من تلقاء أنفسهم، ففي الميثولوجيا اليونانية ربات الإلهام هن ملهمات الشعر والفن. وعند العرب، وادي عبقر، هو مربض الإلهام الشعري، يُلقّى فيه الشعراء شعرهم من قِبل الجن.
فعلى سبيل المزاح، ونبش الأساطير القديمة، أنا دومًا أتساءل كلما مررت برياض هذا البيت، كلما تذكرته، في أي حال كان أبو العتاهية - كما نرجح - عندما أبدع هذا البيت، هل أُلهمهُ يا ترى؟
وأنزع إلى القول أنه أبدعه وحده بدون أي مساعدة، أما كيف فعل ذلك، بأية طريقة، فأعتقدُ الآن اعتقادًا جازمًا أنه حتمًا كان يتأمّل. يتأملُ في ذلك الإنسان لسنواتٍ طوال، طوال جدًا، في سلوكه وتصرفاته ومقدراته، وما يحتويه.
وهو دأب الناس المرهفين في هذه الحياة، دأب العقول العظيمة، التأمل والتفكر في الحياة، في الكون والكائنات.
وهنا يطل برأسهِ قولُ الرئيس البوسني الراحل "علي عزت بيجوفيتش" المقارب لهذه الفكرة. في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب حين قال: "أما الراهب والشاعر والمفكر والفنان، فإنهم يتأملون، إنهم يحاولون الوصول إلى الحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر. هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء: كل شيء بالنسبة للروح، ولا شيء بالنسبة لبقيّة العالم".
...
تأمّل أبو العتاهية إلى أن أتته لحظة الكشف، لحظة التجلي، لحظة اكتمال الحقيقة، لحظة الحشد، حشد المئات من الأفكار في سطر صغير، في بضع كلمات، هي هذا البيت الخالد، الذي خطّه لنا، "وتحسبُ أنّك جرمٌ صغير ... و فيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ"
والذي لا أملك إلا أن أقول كلما قرأته:
ويخونني التعبير.. أسرحُ في البهاء.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
بما انك ادعيّت بأنه يجب النظر الى "ما قيل" و ليس"الى من قال" فما لزوم أن تنكر على علي بن ابي طالب عليه السلام قول هذا البيت وأن تنسبه الى ابو العتاهية دونما اي دليل أو أثبات على ذلك؟
ثم أذا قيل في الشعر بيّت جميل كلامه فمن البدهي والمنطقي ان يسأل الناس:
"من قائله؟"
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته