هُنا الحُب حَيثُ يُفسّره القَلبُ وحدَه، مُتجاوزًا فيزيائيّة المَكان، وحُدود الإمكان..
إذا أقبَلَ الصَّباح عانَقَهُ أصحابُ المِزاج الحَسن بِقُبلَةٍ عَلى كَأس السَّمراءِ الساخِنَة، يَقرأونَ أخبارَ اليَومِ في تُؤدَة، يُوقِظونَ خَلايا عُقولِهِم الكَسولَة بِحَل الكَلمات المُتقاطِعَة، يُناظِرونَ مِن عَلى شُرفَة مَنزلهِم مَن تَعَثّروا في الحَياة فحُرّمَت عليهِم هذه النِعمَة، وسَقطَ عَلى رؤوسِهِم ساعَة ضَخمَة تَقولُ كُل حين " تَأخرت " !!.. يُطالِعونَهُم بِنَظراتِ الحُزن ولِسانُ حالِهم أعانَ الله ذاكَ الأشعَث الأغبَر الذي يُسابِقُ الشَمسَ في الإشراق، والعَصافيرَ في طَلبِ الرزق. هذا ما قَرأتُه في عَينَيّ جاريَ العَزيز حينَ خَرجتُ مُتّجهَاً للعَمَل .’!
بِبساطَة هذهِ الهَندَسَة التي أعرِف، والمُعادَلَة الصَعبَةَ التي شَيّبتنا عَلى مَقاعِد الدراسَة نَراها واقِعاً في حَضرَة العَمل، أبدأ صَباحِي بالسَلامِ وابتِسامَة، ثُم أبدأ بِمُراجَعةَ الأعمال التي أنجَزها الفَريق الذي اضطَرّ أن يَتأخَر حَتّى مُنتَصَف الليل ..
تَدُقُّ الساعَة التاسِعَة؛ يضبطُ فيها العَقل أوامِرَه أن اترُك كُلّ شيءٍ وتَحَرّك غَيرَ آبِهٍ بِما حَولَك، إنّها الجاذبيّة التي تَسبِقُ جاذبيّة الأرضِ في وضوحها، جاذبيّة الطَبق الذي يَحوي حَباتِ رُزٍ بيضاء وأشياءَ لا أعرِف إلا أنّها حارّة جداً مِن ريحِها، بِلمحَة بَصر يَختفون ويتحَولقونَ تَحتِ ظِلٍّ قَريب كأنّه إضرابٌ شامِلٌ عَن العَمَل مَفادُه: وقتُ الفَطور مُقدّس .’! وأنا أبقَى أدورُ في المَوقِعِ كأمّ عَروس ^^
في عالَمِ الهَندَسَة لا وَقتَ في الوَقت، مُخطّطات تَحتاجُ إلى مُراجَعَة، فَواتير بِحاجَةٍ إلى تَوقيعِك، مَشاكِلُ مَوقعيّة تأبَى أن تأتي فُرادى، يَتبَعُها نِداءُ ذلِكَ العامِل الذي يُخبِرُكَ بأنّ عَجلَة سيّارَتِك أخَذتها سِنَةٌ مِن نَومٍ وارتَخَت، يَتلوها شَكوى مِن استِشاريك عَن مَنطِقَةٍ زَلت فيها يَدُ العامِل عَن وضعِ المكياج الأخير كما يَنبَغي .’!
ويَسييرُ اليَوم كباقي الأيامِ يَتَرنّح فيه ضَغطِ الدَمٍ بينَ الصُعودِ والنُزول، وصَوت يأبى أن يَدخُل قَبوَ حُنجَرتِكَ صُعوداً، كالعَصى تَرميه عَلى جَنبِ مُشرِف غادَر مَوقِعَهُ واستَظَل، أو عَلى شُعلَةِ نَباهَةٍ قادَها آخَر فأخّرَت عَملَك .. المَهم عليكَ أن تَصرُخ بِملء فَمِك، رُغمَ أنّي أجتَهِدُ أن أبَدّد غيمَة الصُراخ بِنوتَة ابتِسامَة، وموسيقى المُزاح الخَفيف الذي لا يُمَل ..
بينَ هَذه الأجواء الصاخِبَة، تَستَفِزّني حرارَة الشَمس التي تأكلَ ظِلّ الأرض بِنَهَمٍ كُلّما صَعدَت في السَماء، ويَتَحَدّى صَبري حَرفٌ تَكرّر أمام عيني دونَ أن يَلفِتَ إنتِباهي، حَتّى خُطّ بِعنايَة عَلى عَباءَةِ الرَمل التي غَطّت سَيّارتي البَيضاءَ.. فأخَذ مِن عَقلي موضِعَ البِذرَة مِن الثَمر، ودارَ في مَداراتِ تَفكيري كَما تَدور الأرض، تَسَتّرتُ بالصَوم عَن السُؤال، وتَتَبّع البيانات المَحذوفَة عَلّني أتَذكّر أين شاهَدتُ النُسخَة المُكَرّرة عَن هذا الحَرف، طَلّقت الهَندَسَة في باطِني وتَقمّصتُ دورَ المُحَقّق؛ أرمي الكَلام أملًا مِن أن يَعلَق في عَقلِ أحَدٍ فأصطادُ حَرفًا أستَنِدُ عليه.
لَم يُسعِفني ذكائي، ولا كلامَ الجِد والهَزَل، غَير أنّ قَدرَ الله أسبَق، وإرادَته نافِذَة، إذ رُصدَت حَركَة يدهِ، وقيسَ نَبضُ قَلبِه، ولَمعَةُ عَينِه وضيقِ بؤبؤها في اللحظَة التي رأيتُه بالجُرمِ المَشهود يَكتُبها عَلى خَرسانَةٍ رَطبَةً لَم تَجِفّ بَعد.
قَتَلتُ الدَهشَة في عَينَيّ بالتِفاتَةِ راقِصَة، وقاوَمتُ الفُضولَ بِدرعِ الطَمع في أن أعرِفَ أكثَر، فَسألتُ عَن إسمِه الذي ظَننتُ أنّ في مَعرِفته نِهايَةُ القِصّة، فَقيلَ لي اسمُه " وَحيدُ الله " بَحثتُ في قَوائِمِ الأسماءِ كَطفلٍ يَشُكُّ في حَلّ واجِبه إذ أنّ اسمَه يَخلو مِن حَرف الـ [ٍS] الذي أبحَثُ عَنه . فَازدادَت حيرَتي، وصارَ " وحيدُ الله " واجِباً أتابِعُه مَع تَراكُم الهُموم والواجِبات الهَندسيّة في مَوقِع العَمل ..
لأكثَر مِن شَهر ونَصف يَتَنقّل حَرف الـ [ S ] في كُل مَكان لكنّيَ الآن أراه دَوماً، يَسحَبُ نَظري إليهِ كَعشيقٍ يَسحَر عَشيقَه، عَلى خوذَته الشخصيّة رُسِمَ باحتِرافيّة، وعَلى قَفّازاتِه خُطّ بِعنايَة، حَتى عَلى الرملِ أثناءَ الحَفر وجدتُه يَخطُّ هذا الحَرف وكَأنّه يَعيشُ فيه .. فَسألتُه وقَد غَلبني الفُضول وماتَ الصَبر، مَن هذا الـ [S]، فَخجلتُ مِن سُؤالي حينَ خَجلَ في الرَد وسطَ ضَحكِ الجَميع، فَعرفتُ أنّه الحُب .’!!
مَرّت الأيامُ وسألتُه عَلى إنفِراد مَن هي؟ ، ما اسمُها ؟، وهَل تُحِبها لهذا الحَد ؟
خانَتني العَربيّة التي لا يَفهَمُها لَكِن حَرارَة وجهِه، ودَقّاتِ قَلبِه كَتبَت أمامي قَصيدَة حُبٍ ثائِرة وهو يَنطِقُ بحُبٍ إسمَها إذ قالَ بِعربيّة كَسّرت الإختلافُ مَجاذيفَها " سَعديّة " " سَعديّة ".
إنّه الحُب ..
لَم يَلتَفِت مَعَه أن يَمسَح عَرقَ جبينِه بَعدَ مَشَقّه، وآثَرَ بِه أن يَنزعَ قفازتيهِ ويَكتُبَ عَلى الرملِ الحار بأنامِله؛ اجتِهادًا أن يُحسَنَ الرَّسم، كُنتُ أعلَم أنّ الحُبّ يُكتَبُ عَلى الخَرسانَة الرَطبَة فإذا جَفّت ثَبَت، لكنّه عَلّمني بِبساطَته أن الحُب حَياة، لا ضَير أن تَكتُبه عَلى رَملٍ سَينهار بَعدَ ثوانٍ، ولا عَلى أرضٍ سَتُدفَن بَعد لَحظات ..
عَلّمني بِفَقرِه الذي لم يَسمَح لَه أن يَشتَري بِه هاتِفاً ذكيّاً بِكاميرا، أو كاميرا احتِرافيّة يَلتَقِطُ بِها اسمَ مَحبوبَته حيثما راحَ وجاء: أن الحُب لا يُقرأ في عُيونِ صورٍ جامِدَة، إنّ للحُبّ رسولًا لا يَكذِب، ووحيًا يَتنَقّلُ بينَ القُلوب. عَلّمني أنّ الحُب أرقَى مِن أن يُختَصَرَ في حِكايَة، أو أن يَضُمّه فِلم رومَنسيّ، أعادَني بإنسانيّتِه أن أقرأ قول الله: " رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ... " وأن أعيشَ صَدقَ المُصطَفى حينَ أجاب " عائِشَة " حينَ سُئِلَ عَن أحَب الناسِ إليه ..
فَسُبحانَ مَن ألّفَ قَلبَه ورزَقهُ حُبًّا لَها يَنسَى مَعهَ الهَمّ والغَمّ والمَشَقّة، فاللهُمّ أتمِم لَهم هذا الحُب واجمَعُهم إن كانَ فيهِ الخَير لَهم .. واجمَع كُلّ قَلبين فَرّقهما البُعد، وارزقنا حُبًّا لا يَنضَب، ومَودّة لا تَخبو، وسَكينَةً لا تَبهت، واجعَل كُلّ ذلكَ سَبيلًا في القُرب إليك ..
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات