إنها زوايا النّظر المختلفة حول السّفر، رغم كثيرٍ من المتشابهات يُبقِي السّفر على حظّه في الاختِلاف، ورغم جليّ الصّورة إلا أنّ في أعماقِه كَنزُ الأسرار.
يحدُث أن يتَشاركَ في مَسارِ رحلَةٍ ابتِسامَة ودَمعة، أن تختلفَ الرؤيَة مِن ذات الجِهة فتُشاهدُ أفراحُ الأرضِ وبهجتها مَع حُزنها القاحِل!
أن يُصنّف النّاس في دَرجَةٍ اقتصاديّة وأخرى ذاتُ رفاهيّة رغم تماثُل الاتّجاهات وذراعيّ الوَطن المُرحّب، وفي ذات الدّرجَة قَد يحملكَ القَدر بأن تجلسَ بينَ رفيقين أحدُهما يَهابُ الإقلاع والهُبوط، والآخر قد غَطّ في سُباتٍ عَميق!
رغمَ مَحدوديّة المُسافرين في ذات الرّحلة إلا أن الفَطنَ يلمَحُ حديثَ العُيون، فَيرى الشّوقَ في عينِ أحدِهم بَعدَ غياب، والحُزنَ في عينٍ لَم تَستَطِع أن تَرى فَقيدها لتباعد المَسافات، وأخرى اشتاقِت للوطَن والسّكينَة والحَياة!
في السّفر المُعاصِر تَتطوّر الوسائِل، ويُختَصرُ الوَقت، وتُخفّف الأعباء على المُسافرين، وفي ذات الوَقت يُحافِظُ السّفرُ على قَديمِ هَيبَته رغمَ رفاهيّته، وفي تَكوينِه الأصيل يَبقى العَذاب رغم تحلّيه بالعُذوبَة، ويَبقى الخَوفُ قَرينَه رُغم الأمان!
فجُلّ السّفر في إرثه، وجَمالُه في عراقَة ماضيه، فمَهما تَطوّر السّفر بوسائِله، ومَهما اختُصرت المَسافات سَتبقى كُل الدّروب المَقطوعَة كأنّها أيقونَة ترتكزُ على ثَلاث: الوُجهَة والصّحبَة وحَديثُ النّفس!
أمّا الوُجهة: فترتسمُ للمُسافِر عَلى شكلِ وطنٍ مُشتاق، وصدرٍ يحمله الحَنين للعِناق!، أو تتشكّل في عينيه على شكلِ أرجوحَة يدٍ تلوّح بالوَداع!، فكيف يستوي مُستقبِل الأفراحِ ومودّعها!، وكيف يتشابَه قَلبان يضيفُ أحدهما في دُعاء سفره " آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ".
أمّا الصّحبَة: فهيَ مَرهَمٌ لا مُرّ فيه، ودواءٌ لا داءَ مَعه، تُطوى بينَ يديهم المَسافات، وتَمرّ اللحظات سريعةً بينَ الضّحكات، فالرّوح التي تأنَس برفيقها يحفّها الأمان، والصّحبة الصّالحة تُنير الطُرق المُظلِمَة، وترسمُ مِن أنوارِها أحسَن الخِتام.
أمّا حَديثُ النّفس: فهوَ خَبيئَة المَرء، وذكريات حاضِره وأمسه، وتُرجمان مَعقود لِسانِه وقَلبه، يبقى كذلك حتّى تَرى مَعكوسَه في عَينيه، ثُم يتسلّل مِن ذاتِه إلى ذاتِه ليتطورَ مِن أحاديث إلى أفعال تُغيّر مُجريات الأحداث فإن كانَت خَيرًا فَخير، وإن كانَت شرّا فَشر!
وأعظَم السّفر وأشقّه سَفر الدّنيا، إذ بدأه أبونا آدم برحلةٍ مِن الجَنّة إلى الأرض، وتركنا هاهُنا عَلى أهبَة السّفر، فَمَن عَرفَ هذه الحَقيقَة عَلى كَمالِها وخَفّف مِن متاعه كانَ سَفرُه إلى حيثُ الوَطن الأم سَهلاً يسيرًا، ومَن تَجذّر في غَير مَكانِ الإقامَة فَقد زادَ عَذابَ السّفر عَذاباً!
فاللهُمّ حِملاً خَفيفًا وسَفرًا لا نُخطئ بِه جِنان الوُجهَة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات