هُنا حَيثُ الحُبّ بَحر في اتّساعِه وعِلمِه وخَيره !



" شايِف البَحَر شو كبير؛ كبر البَحر بحبّك " _ أو كَما غَنّت _ .’!


بَعدَ تجاوِزٍ للمَسموعِ مِنَ اللّفظ، والابتِعاد عَن تَفسير نَوايا القَلب، فإنّي لا أظُنّ أنّها/أنّه نَظَر للبَحر، ولا رأى كبرَه واتّساعَه، إنّما غاصَ في ضيقِ الحُبّ الذي رَسمَه اللحن، ودارَت بِه رَحى الموسيقى فَذابَ حُبًّا كالحَبّ وقتَ الطَحن.’!


أمّا أنا سَأقِفُ عِندَ البَحر، أراقِبُ طَلعَتَه، أستَمِعُ لموسيقا مَوجِه، لا أنكَسِفُ عَن مُتابِعَة قُبلَة الشَمسِ عَلى وجهِه إذ أقبَلَت أو أغرَبت، ألحَقُه مُداعِباً عِندَ الجَزر، وأهرُب حينَ المَدّ، فأنجو تارَةً، ويَظُنُّ بالأخرى أنّه انتَصَر حينَ لمَسَ قَدمَيَ المُتأخرتين، ويَنتَصِرُ خِتامًا حينَ يُلقيني أرضًا ويَحتَضِنُني .’!

في مَشهَدٍ تَتداخَلُ فيهِ ضَحكات حوريّة البَحر وطائِر النَورَس .’!


بَهذا سأفهَمُ مَعنى الحُب..

البَحر يا صَديقي مَكمَنُ الخَير، خيرٌ ألهمَه الله إياه ابتِداءً فَمَنَحنا تَذكِرَة الوصولِ إليهِ بِقولِه: " وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ "، وخَيرٌ أخبَرتني بِه جَدّتي حينَ قالَت: " اعمَل خَيرًا، وارمِه في البَحر ".


والحُبُّ الذي أستقيه مِن البَحر إذا نَاظَرتُ اتِّساعَه حُبٌّ لا يَنضَب، كَيف لا والبَحرُ مَضرِبُ المَثل في اتّساعِ عِلمِ الله بقولِه : "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا " [الكهف: 109]، وقال - عز ذكره :" وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [لقمان: 27].


تَعالَ يا صَديق، نَجمَعُ ألواحاً ودُسُر، نَرُدُّ لَها فَضل أن حَملَتنا مَع نبيّ الله نوح؛ فَنَحمِلها وِنَغرَق في عَرضِ البَحر، فالله لَم يَخلِق لَنا عَقلاً لنَقِفَ عَلى شاطِئِه، عَلينا أنّ نَغوصَ فيه، نَجمَعُ فَضلَه بالحَرف، كَما نَجمَعُ لآلِئَه، نَسبَحُ في قاعِهِ كما هو الحالُ عَلى ظَهرِه، نُحاوِلُ أنّ نُقلّب تاريخَه الذي كُتِبَ عَلى ورقٍ لا يُذيبُه ماؤُه، ولا تَهضُمُه أسماكُه، تَعالَ نُضَمّدُ جُرحَهُ بِشراعِنا الأبيَض، ونُسمِعُهُ ما يُنَظِّفُ آذانَه مِمّا أزعجوه بأصواتِهم..


تَعالَ بِنا نَجلِسُ هاهُنا، حيثُ مَدرسَة التَعلّم والمَكانُ في رِحلَة طَلَب العِلم، في مَجمَع البَحرين، مَكانٌ مُبارَك جَمَع نبيّنا موسى عليهِ السَلام والخضر، بوصفِ الله " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ".


هُنا نَجلِسُ جِلسَة المُتعلّم، ونَقولُ في حَضرَة البَحر " سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا "، فَنمضي مَعاً في مَعاني الطاعَة المُطلَقَة، تَستَذكُر يَومَ أن كانَ البَحرُ بأمرِ الله حُضن الأم، "فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي " إنّ البَحرَ سَريرُه الهانىء، وسَفينَتُهُ إلى بَرّ الأمان.. لا تَخافي فَموجُ البَحر يَتراقَصُ كَي يُضحِكُه، يَعلو ويَهبِط ليُسلّيه عَن غيابِ أمّه..


تَعالَ يا صَديقي نُبحِرُ في أعماقِه، نَتَعرّف عَلى طيبِ سُكّانِه، لنَلتَقي حوتَ يُونُسَ عَليهِ السَلام، نَستَكشِف ضَخامَة فَكّيه، نَستَطلِعُ جَوفَه، نَرى فيهِ نورَ المُناجاة، وحَبلَ الأمَل الذي لا يُرى إلا بِعُيون الصالِحين.. هُنا استَمِع دونَ صوت، فقَد روي: " أنّ الحِيتان في البحر تستغفر للعالِم "؛ كما رَوى أبو الدرداء ممّا سَمِعَه عَن النَبي _ صَلى الله عليه وسلّم _ فيما صَحَحَه الألباني ..


يا صَديقي في البَحرِ كُلّ مَعاني الحَياة، فَفيه لَونٌ مِن الابتِلاء " وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ...

وفيه جُلّ مَعاني الأمَل والاتّكال عَلى الله، فَهل تَعجَزُ مُخيلتك أن تَرى فيلاً يَخرُج مِن رحمِ نَملَةٍ حينَ تَسمَع استجابَة البَحر لِعصا موسى حينَ أمرَ الله: " فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى "


يا صَديق إذا أردتَ أن تُسمَع: تَكلّم للبَحر، وإذا أردتَ أن تَروي عَطَشَ الجَمالِ فيك: تأمّل وجهَه. وإذا أردتَ أن تَفهَم الحُب: اغرَق عَلى شاطِئ مَعانيه، وتَعلّق بِصنّارَة الأمل، واعلَم أنّ الدَمع لا يُرى بينَ موجاتِه الفَرحَة، والبُكاء لا يَنفَع فيهِ إذ يُبادِلكَ عَلى الدَوام بالأحضان التي تُخفيها وتَرسُم ابتِسامَة..


فالبَحر لَوحَةٌ تَستَحق التّأمُلّ، ولموجِه موسيقا أولى بالاستِماع، وفيهِ مِنَ المَعاني والحِكَم والخَير ما يَستَحق الجُلوس عَلى رملِه لنَتَعلّم!

فالحُبّ بَحر في اتّساعِه وعِلمِه وخَيره، والبَحرُ حُبٌ في امتِدادِه ومَوجِه ورسائِله !




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات جعفر فوارس || شيء يعتقله عقلي

تدوينات ذات صلة