بقدر ما نتجنب فصل النفس عن الجسد لنتجنب فصلهما عن غذاء القلب والروح


نتخبط بين جدران متاهات الحياة ..

نضيع .. نتيه عن ضوء نفقنِا الذي عاهدنا القلب أن نلمس أشعته بأكف الأمل لنضمّها حتى آخر الأنفاس..

نجلس بمنتهى الحيرة والعجب عند زاوية رمادية هشة الأضلُع .. تستقبلنا فوّهة جدار آخر لكنها أكثر هشاشة وأعمق..

تغرزنا أشواك السقف نحو القاع .. تنسكب الدموع .. تحلق حمامة كانت تؤنسنا من نافذة الأحلام .. تبتعد عن الواحة المخيمة وسط الصحراء .. تحلق بشدة أكثر ثم تسافر بعيدا.

نرى كابوسا في المنام .. نتعرّق بغزارة .. تبكي الروح وتَضمُر بوابات النفس المتطلّعة إلى الحياة ثم ننهض لنضيعَ مجددا .

إنها منتصف الخيبة أو أولها لا فرق فهي تتجدد ككبد قوي لا يعرف الاستسلام .

خيبتي من نفسي وممن أحب على عدم قدرتي على الخروج من شرنقة الوجع .


....................................................


وصلتني هذه الرسالة المحملة باليأس بينما كنت أتفقد رسائل الاصدقاء في هاتفي المحمول .. تراءى إلى عقلي ذلك المشهد المؤلم ..

كان من واجبي بالتأكيد أن لا أسمح للحزن أن يسطو على مكتنزات أكثر في قلب هذا المجهول الذي لا أعرف عنه شيئا سوى أنه بحاجة لمن يقرأ على قلبه ترتيلة حب وسلام ، ثمّ يضمد جرح روحه بلمسة حنون من حرير الكلمات الدافئة .

كان من واجبي أن لا أترك قلبا أطلق صرخات حبر قلمه تناجي قلبا ما في الأفق البعيد ؛ فقلبه ما عاد يقدر على ضخ مياه النجدة .. حتى تولى قلما عنه تلك المهمة الصعبة .

جعلتُ أحرّك جنودي الصغيرة الجميلة .. حروفي وأمنياتي وأغنياتي في صفوف دفتر العون .. أمدّه له .. ليس لأنني ذلك الطبيب الذي احتاج أن يحكي له قصته على طريقته الأدبية الأخاذة ؛ ولكن لأننا حينما نريد أن نمد يد العون لا يوجد سبب لذلك من منطلق إنسانيتنا .. نحن بنو الإنس لا نحتاج أن نجد سببا واحدا يدفعنا لمساعدة من تهدده الحياة برماحها .. أو من هو بالتأكيد حياته مهددة بالخطر .. إنما توجد الوسيلة ،نجدها تشرأبّ بحب إلينا كي نمنحها بحب وبفن جميل لحزين يقطن داخل قبو مظلم مغلق في سفينة الألم تتلاطم أمواج الحياة من حوله ، لكن يكمن فن الطبيب النفسي هنا أن يصيّر تلك الأمواج الشرسة إلى كائن أليف ؛ ليخرج أسير هذه الحرب من قوقعته ويحكي له ألمه ، فينصت له ثمّ يضمّد ما أحدثته الحياة في صدره من جراح.

وجدتُني أكتب له بالطريقة التي أحبّ أن يبوح عن حزنه من خلالها .. ولأنها طريقة بعض الأطباء في منح بعض الدواء .....


" عزيزي .. أيها البطل المناضل في ساحات الحياة .. دعني أخبرك سرا ..

في كل مرة كنت أكتب فيها عن الحياة ، أُسدِل بذلك على قلبي فكرة ثقيلة ، ضبابيّةً في الشعور تتملّكني إزاء تفتيش أغوار النفس بحثاً عن عنوان يلائم تفاعل هذه التركيبة الفريدة ( الروح ، النّفس ، والجسد) مع شُعَبِ بحر الحياة المتلوّنة والمتعددة نوعاً وحجماً .

الحياة هي النّور الذي يسطع بلطف ليقتحم عتمة روحك وتارّةً هي الظلمة التي تُنسينا ملامح أجمل الأشياء ، وهنا يكمن الفنّ في تحويل هذه الظلمة إلى نور ، باستطاعتك ذات شجاعةٍ أنت صنعتها بنور ايمانك وبريق أملك أن تفعلها .

اكتب حزنك في ورقٍ أبيض كبياض النّورس الذي ينتظر المقيّدين ؛ ليُحلّق بهم كأشرعة السّفن الحُرّة في عُرض البحر . لا مكتئب يكتب ألمه لأنّه أراد الثرثرة مع قلمه في ورقة باهتة أو دفترٍ عتيق ، كلّ ما في الأمر أنّه أراد أن يعيش بألمٍ أقلّ .. أجل هكذا نشعر عندما نُطيح بالاكتئاب أرضا على الورق ؛ فحينما نكتب تذوب بضع أوجاعنا في دقائق الحبر أو البوح ، لا فرق !

لست الأكثر حزنا في هذه الحياة ، ولست الأكثر تعقيداً ، ولست الوحيد الذي خاض ما خاض من تجارب الاكتئاب ولا يزال ، خوض الاكتئاب رحلة وقُدّر لنا أن نكون أحد رُحّل هذا الموكب الحافل بالألم . الإكتئاب صاحبٌ صعبَ المزاج ، يرافقك ويُدوّن حزنك في كلّ مرةٍ تنهار فيها ليتلذّذ بذكرى دموعك ، لكنّه سيغيب عنك عندما تستفحل أعراض حزنك على حالك التي اشتعل فتيلها وصارت أملا . "


كيف ينسانا الإكتئاب فننساه ؟..


ما معنى أن تغضب على حالك .. على حزنك .. على الإكتئاب فيُهزَم الألم وينساك ؟


تقول في نفسك " أُريد أن أتحرّر من هذا القيد ، أريد أن أخرج من قفصَيَ الأسود اليوم قبل الغد " ، لكنّك في كلّ مرّة كنت تفشل .. يكاد يُسمَع صوتك وأنت تحدّث نفسك بوجوب الانتصار .. لأنّك لم تتفوق على عجزك .. وأخمدت تلك الشعلة الصغيرة في قلبك دون أن تفهم مدى قدرتها على التحوّل إلى بركانٍ ثائر .. يُعيدك إلى الحياة من جديد ! .. أجل أخمدتها .. بضعفك وقلّة صبرك .. وتناسيك لعظمة قدرة الله وهذا الأهمّ ! ..



دعني أخبر قلبك الوَجِل عن عظمة قدرة الله .


سبحانه العظيم العادل ،لن يترك قلبا يناضل مدى العمر، سينال كلٌّ منّا من عطاء ربه وكرمه ، ولكن صبرا .

وإنّ كرم الله ليس فقط في عطيّة أو منحة أو رزق دائم وفير ، لربما كان بالمنع ايضا ! .

أجل .. فلولا منع الله هذه النعمة عنك مؤقتا أو زمنا مقدرا لما عرفت قدر الدعاء ولوعة الاشتياق لمناجاة ربك ،ولما ذقت حلاوة الوقوف بين يديه طلبا للعون .. بُح له بكل ما يختلج في صدرك .. لتبكِ.. لتتوسل .. لتتضرع .. أخرج كل ما في صدرك من ضيق على هيئة ابتهال ودعاء ورجاء .. ولن يضيّعك الله .

بمناجاتك له ستسكن الروح ويستريح الأنين قليلا عند حافة الهاوية .. فيغادرك ببطء وأنت تروي نفسك الظمآنة للحب برحيق حبك له.

لكن لا بد أن ترسّخ حب الله في قلبك ويتجلى هذا الحب بأفعالك فلا فائدة ترجى من قول بلا فعل . اغرس في قلبك زهرة اليقين بخالقك ، بوجوده دوما ليداوي قلبك عندما تذكره بلسان صادق طهور وعند تحليق قلبك إلى أعالي السماء في لحظات سجود منير بين أشتات ظلمة غرفتك التي شهدت جدرانها على سكابا دموعك التي ما عرفت كيف تختبئ، فبكتها ملائكة السماء !

بوجود زهرة اليقين هذه لن تعرف الاستسلام أبدا ،وكلما ازدهرت ونمت اشتد في قلبك حبل النجاة الذي لن يخذلك لو سقطت نفسك يوما وتناجت .


ألم يقل جل في علاه : (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )

أيعجزه قلب موازيين حياتك لصالحك ولأجل دموعك وأنت تدعوه وترجوه، دموعك التي أحصاها ورآها دمعة دمعة ؟!

أيتركك وأنت الذي وقفت ببابه مناجيا .. أن يا رب فتحا مبينا .. افتح لي أبوابا سدت في وجهي .. ؟!


تاللهِ كلّا وكلّا .. لن يضيّعك .


دموعك التي لو لم يكترث لها أحد هي غالية عند ربك، وإن كنت مؤمنا به حق الايمان، فلن تترك وساوسا ضالة تحوم في نفسك بعد عمر طويل من الحزن والألم والبلاء لتخبرك عن بعد او استحالة الإجابة من الله !

وأوصيك يا عزيزي أن لا تقنط من رحمته فإجابة الله لقلبك على قدوم ،فإن لم تأت فقد أتتك، حينما رد الله عنك قدرا مؤلما ، أو كتب لك بذلك الصبر ان تنال العُلا من الجنة .. أهناك اعظم من هذا الوعد ؟!


لن ينسى دموعك ولن ينسى ألمك .. سينقذك من تلاطم الأمواج .. ويدفئ برد قلبك بنور القرآن الذي لازمك رفيقا في قلبك وجيبك .

لتكسر قيودك صرخات روحك الواثقة بفرج من الله ، سينسانا الإكتئاب لو تذكرّنا في كلّ عاصفة يأسٍ أنّ في نهاية النفق المظلم مخرجاً ولو كان بعيدا ولم نبصر نوره بعد .

سيشعّ النور يوما ولن ينطفئ وسيُعيد لنا بهجتنا الأولى، فننمو ونرقى وندفن الإكتئاب في أعماق النّفق .

سينسانا الإكتئاب يا عزيزي لو وضعنا هدفاً نشغل به محيط أسوار النّفس فلا تبقى له زاوية يمارس خبثه فيها ، سينسانا الإكتئاب لو داومنا قراءة كتاب الله وتأملّنا آياته وطبّقناها في واقعنا الحياتيّ ،صدّقني لا شكّ في أنّك لو لزمت كتاب الله فحفظته في قلبك ستحيا نورساً حُرّا يُحلّق دون خوف فوق مُحيطات الحياة .

ليقطن قرآننا في القلوب، لنرقى ونُزهر ويغمرنا النّور ..اضمم آياته إلى صدرك وتأمّل حِكَم الله بعناية ولا تقنَط من رحمة الله ، تأمّل خلق الله وإبداعه في الإنسان والمخلوقات أجمع ، في الفضاء في البحر في السماء وفي كلّ شيء ، ولن يجد الحزن سبيلا إلى قلبك "


غدا ستغدو شرنقة الوجع فراشة وتحلق فوق الأزاهير 💜







هبة محاشي

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات هبة محاشي

تدوينات ذات صلة