لا يوجدُ بداياتٌ سهلةٌ دائماً .. ولكن يوجدُ لحظةٌ يتحتّمُ عليكَ أن تعرفَ كيفَ تبدأ، من أين تبدأ .. هذه بدايتي .. وكالعادة، ليست النهاية
أتأمّلُ نفسي الآنَ مادّاً بصري نحوَ البعيد، أصابعي على لوحةِ المفاتيح، موسيقى خالد الكمّار في رأسي تطبخُ الأفكارَ على نارٍ هادئة، أطرافي متجمّدةٌ مُذ استيقظتُ وعزمتُ على خوضِ هذا اليوم، أغمضُ عينيَّ قليلاً لأجمعَ نفسي هذهِ المرة كما يجمعُ لاعبوا كرةِ القدمِ رؤوسهم بالتصاقٍ وقتَ المشاورةِ قبلَ انطلاقِ صفّارةِ الشّوطِ النّهائي، أتنفّس .. بعُمقٍ وبابتسامةِ سخريةٍ لا أعرفُ سببها، أتفرّسُ شاشةَ اللابتوب، أُحدّثني في رأسي: "حسناً .. ما الدّهشةُ التي يفترضُ أن أضعها في هذا النّصّ؟ من أينَ لي بها؟ وكيفَ سأصنعُها هذه المرّة؟ .. ماذا ستكتبين يا فاطمة؟"
أحاولُ أن أتناغمَ مع الموسيقى، أفتحُ أدراجَ عقلي، أضعُ الهوامشَ على صدورِ الصّفحات، أقسمُ رغيفَ السّؤالِ أرباعاً، لا أسعى للإثارة، أحاولُ فقط أن أكونَ منطقيّاً، أن أثبّتَ أشجارَ أفكاري في عقولٍ خصبَة، يلفتُ نظري وسمُ "مُلهم" أعلى يمينِ الشّاشة، عبقريٌّ من اخترعَ الإسمَ ووضعهُ في هذهِ الشّاكلةِ تحديداً، أذكرُ جيّداً اليومَ الذي تمّ قبولي فيه لأدوّنَ هُنا، أذكرُ شعورَ الفخرِ الذي دارَ بي وقتَ أن ظهرت لي نافذة"مرحباً بك في مُلهم!" ..
الآن الموسيقى تضبطُ ايقاعها بشكلٍ يتناسبُ مع هذهِ اللحظة، بشكلٍ يُجبرُني على الاحتفالِ بهذا النّصرِ بِ"تدوينّة". "ياااه يا فاطمة، التدوينةُ الأولى!" صوتٌ من أسفلِ دماغي يهمس، يجعلُني أبتسمُ الآنَ وأنا أكتب، بعيداً عن ضوضاءِ الشارع وأختي التي تقفُ معَ كوبِ الشّايِ على الباب، والباب المفتوحِ الذي أكرهُ أن أراهُ مفتوحاً .. إننا حينَ نفرحُ ننسى كلَّ الأشياءِ التي قد تدورُ حولَنا، ذلكَ أنَّ صوتَ الفرحِ أعلى من بقيّةِ الأصواتِ حينَ يطرقُ رعدهُ أرضَك، رهبةُ البدايات، أو دهشتُها، شيئانِ لا يمكنُ وصفهُما أو تحصيلُهما دائماً، وغالباً ما يكونُ استمرارهُما صعباً. قرأتُ هذا الصّباح رسالةً لديفيد وايت كان قد قالَ فيها أنّه مستعدٌ لمُقايضةِ كلِّ شيءٍ يحبُّه مُقابلَ عيش المرّةِ الأولى! .. كنتُ أقولُ دائماً "هناكَ أشياءٌ قد نعيشُها مرّةً واحدةً، مرّةٌ أولى لا يمكنُ تكرارُها، ولا يمكنُ أن تحسَّ بالشعورِ ذاتهِ بعدها مهما أعدتَ الكرّة"
تُفرزُ لنا الحياةُ دائماً أشياءً لا تتكرّر، منها لحظةُ الولادةِ الأولى من رحمِ الحياة، لا رحمِ والدتك، المُعانقةِ الأولى، أُحبُّك الأولى، مذاق أوَل حلوى طفولة، رائحةِ أوّلِ زهرةٍ أُهديت لك من شخصٍ تحبُّه، الدّهشةُ الأولى، الهديّةُ الأولى، لحظةُ الجنونِ الأولى بعدَ أعوامٍ من الخوف، لحظةِ العثورِ على الأشياءِ للمرّةِ الأولى، النّصّ الأول، التّصفيق الأوّل، الابتسامة الأولى، الطّفل الأوّل بعدَ عُقمِ سنوات، الصّديق الأول في معاركِ الحياة، الطّيرانُ الاوّل، السّقوطُ الأوّل، طعمُ الدّموعِ الأولى وشكلُها اللامعُ على الوجه .. وأشياءٌ لا حصر لها، ومرّاتٌ أولى لا حصرَ لها، والسّؤالُ الذي يأكُل رأسي: "لماذا نتذكّرُ مرّاتَنا الأولى بعدَ فواتِ الأوان؟" .. لطالما آمنتُ بفكرةِ العيشِ في اللحظةِ، العيشِ في الآن، دونَ الالتفاتِ لماضٍ أو التّفكيرِ بالمستقبل، وأتعجّبُ ممّن يقضي عمرهُ نادماً، أو في محاولاتٍ مستمرّةٍ للتكهُّنِ بالمستقبل، ووضعِ احتمالاتٍ مفرطةٍ لأشياءَ لا يُمكنُ الجزمُ بحدوثها، وإسرافِ الساعاتِ في التفكيرِ بأمورٍ غيرِ مُجدية .. لماذا لا نتركُ للأيّامِ حرّيةَ تقريرِ مصيرِنا ونعيشُ الآنَ دونِ بذلِ الجهدِ الكبير والتّدخُّلِ بمشيئةِ الخالِق، نعيشُ الأشياءَ كأنها المرةُ الأولى، كأننا لن نجرّبها بعدَ ذلك؟
ألمحُ الساعة، الآن يتشابهُ التّوقيتُ معَ التاريخ، "اثنا عشر أربعَ مرّات" ..أمرٌ مُثيرٌ للحظ!. منذٌ أشهرٍ أصبحَ اهتمامي بالأرقامِ المتشابهةِ يزيد، كنتُ أرى في كلِّ مرةٍ رسالةً يجبُ عليَّ أن أقرأها جيّداً، كنتُ أسمعُ صوتها في كلّ مرّة، وقرأتُ مرّةً أنّ للكونِ علاقةٌ بالأمرِ وهذا ما أثارَ اهتمامي أكثر في كلّ مرةٍ فتحتُ فيها شاشةَ الهاتف ورأيتُ الأرقامَ تضحكُ لي وتتحدّث، فأبدأُ الإنصات .. الآن وهذا المشهدُ يتكررُ مجدداً أمامي، أسمعُ جيّداً ما تقولُ لي .. هذهِ المرّة همسَت: "يا فاطِم .. كوني مُدهشة!"
#فاطم
12.12.2020
12:12 م
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
رائع
جميل!
❤️❤️❤️