الباكورة، قصة حب للكتابة ما انفك أن كبر و نضج تماما كالباكورة...

رن الجرس، دخل التلاميذ إلى قاعة الفصل، وأخذ كل منهم مكانه منتظرين قدوم الأستاذة الذي لم يتأخر، وهي تحمل محفظة جلدية عريضة، هب أحد التلاميذ لحمل المحفظة عنها، وأسرع أخر لمسح السبورة، ابتسمت الأستاذة معربة عن امتنانها لتلاميذها الذين لم يبخلوا عليها دائما بالعون منذ أن ظهرت عليها معالم الحمل. أمسكت قطعة طباشير وكتبت تاريخ اليوم على السبورة، أخرج التلاميذ كتبهم وأعاروا الأستاذة انتباههم لتشرع بشرح درس اليوم، كعادتها دونت رؤوس أقلام للدرس الجديد وشرعت في طرح بعض الأسئلة على تلاميذها في إطار بناء الدرس أثناء ذلك أحست الأستاذة بطفلها يتحرك في أحشائها وكأنه يتفاعل مع شرحها. ليست المرة الأولى التي يشارك الطفل أمه دروسها، أنهت شرح الدرس وطلبت من تلاميذها تدوين ما توصلوا إليه من استنتاجات،

جلست الأستاذة فوق الكرسي لأخد قسط من الراحة، وضعت يدها فوق بطنها مهنئة التلميذ الصغير على تفاعله معها، لم يبق وقت كثير ليخرج إلى هذا العالم، لطالما انتظرت قدومه، وكذلك هو أبوه، بل لم تنحصر دائرة المنتظرين في والديه فقط بل شملت كل العائلة، ميلاده ميلاد الابن والحفيد الأول، انتهت الحصة وانصرف التلاميذ مودعين الأستاذة التي حملت محفظتها، توجهت الأستاذة نحو بوابة المؤسسة حاملة محفظتها الجلدية، أحست بحمل المحفظة يخف فالتفتت إلى خلفها، لمحت زوجها يحمل المحفظة عنها. كلاهما يدرس اللغة العربية بهاته المؤسسة. أخبرته عن تفاعل طفلها مع شرحها، ابتسم الأب قائلا: «لغة الضاد تسري في عروقه وهذا ليس بغريب عنا". حركت الأستاذة رأسها مؤكدة على كلام زوجها ووضعت يدها على بطنها كأنها تلتمس رأي الفتى، وتابع الزوجان طريقهما إلى المنزل.

ذات صباح، أحست الأستاذة بتقلصات في بطنها، علمت أن اليوم هو اليوم ظلت تنتظره، هاهي ستصير أما. أقلها زوجها على وجه السرعة إلى المستشفى، بقي الأب ينتظر يجوب قاعة انتظار بالمستشفى جيئة وذهابا ،ينتظر بلهفة ولادة الصبي، يجلس تارة ويقف تارة أخرى فجأة سمع صوت المولدة تناديه تفضل يا أستاذ هاهو ابنك ، دخل الأب وتسلم ابنه.، حمله بين يديه وابتسم، كانت فرحته لا توصف ،يومها ألقى زف البشرى إلى تلاميذه ،وقال لهم إنه مستعد في هذا اليوم لتلبية طلباتهم ،لم يكد الأستاذ بنهي كلماته فطلب منه عبد الرزاق يومها، وهو من أذكى التلاميذ، أن يضيف إلى نقط ما تحت العشرة واحد على يسارها ابتسم الأستاذ لم يكن ينتظر طلبا مثل هذا ،فقال سأعطيكم نقطا جيدة في أنشطة الشفوي .

امتلأ بيت الأستاذ عن آخره بالمباركين من أفراد العائلة وغيرهم، المار بجانبه يخاله خلية نحل، أفواج تدخل وأخرى تخرج طوال اليوم، فرحة الزوجين كانت عارمة فتسعة أشهر من الانتظار طالت عليهم يتذكرونها بدقائقها وساعاتها وأيامها. مرت بضعة سنوات ومنذ نعومة أظافر الفتى، عشق لغة الضاد عشقا صوفيا، وكم تستهويه لغة مقدم برنامج "امودو" التي يتفنن بلغة جميلة في وصف دقائق بعض الحيوانات الصحراوية، كما أنه لا يتأخر عن الاغتراف من مكتبة أبيه، وكم أعجب بكتاب "البخلاء "للجاحظ «الذي تفنن في وصف سير بعض البخلاء، ويجعلك كأنك تعيش بين ظهرانيهم. كلما مرت أمه بجانبه وهو يحمل كتابا إلا ورددت: "لا عجب أنك كنت تدرس معي وأنت في أحشائي". أخبر الفتى والده أن سمعه يمج كلما سمع جملة بها خطأ ما، أجابه والده بأنه اكتسب سليقة، تساءل الفتى عن معنى كلام والده فبادر بسؤاله، وضح الأب كلامه قائلا بأن الموسيقي الحاذق يميز بين النغمات رديئها وجيده، وهكذا من يمتلك سليقة لغوية، يمتلك حدسا داخليا، يمكننه من تمييز الخطأ من الصواب حتى مع عدم القدرة على التعليل، وهكذا يكون معظم الكتاب. سماع كلمة كاتب جعل الفتى يشرد بذهنه ويغوص في بحر من التساؤلات: هل يمكن أن أصير يوما ما كاتبا؟ هل يمكن أن أرى كتبي تقرأ في مختلف أنحاء العالم؟ بقيت هاته الأسئلة تتراقص في ذهن الفتى ويده على خده، المار بجانبه يخاله فيلسوفا متأملا من فلاسفة اليونان القدامى، أدار وجهه وراح يحدق في ورقة موضوعة فوق الطاولة، تملكته رغبة عارمة ليملأها، لمح قلما بجانبها، أمسكه وطأطأ رأسه لوهلة، قرر أن يكتب قصة، بقي جامدا في مكانه يفكر في موضوعها، وضع القلم جانبا ونهض، ترك الورقة مكانها إلى أن يتضح الموضوع في ذهنه.

خرج إلى حديقة البيت واتجه إلى الركن حيث أغراض لعبه، دراجة هوائية صغيرة خلفها عربة تجرها بها باقي أغراضه، أغراض لعبه ليست كباقي ألعاب الأطفال الأخرين، فريدة من نوعها، قد تبدو عادية لكن لمخيلته رأي أخر، مخيلته الخصبة تجعل من أغراضه كنوزا قيمة، كرسي من هنا، آخر من هناك مع بعض الأغراض، وها هو الفتى قد شيد قلعة كبيرة. لطالما استدعى والديه إلى الحديقة ليريهما قلاعه الضخمة وغيرها من ابداعاته، جعل من ركن الحديقة مدينة لا تهدأ صباح مساء عادة ما يلعب الفتى في ركن الحديقة حيث خم الدجاج والأرانب، لا عجب إنه مهووس بوثائقيات الحياة البرية وحيواناتها الجامحة وكم تعجبه الحرباء وهي تتنكر في ألوانها وتتقي شر محذقا بها، وكم يستهويه ذكاء أبي الأشواك القنفذ، الذي يتمنى يوما أن يتعهده في بيته. عاد الفتى إلى داخل البيت وجلس إلى الطاولة، حمل قلمه مجددا وقرر أن يكتب قصة مستلهمة من مغامراته في الحديقة، مر والده بجانبه ولمحه منهمكا في الكتابة، توقف لحظة ثم تابع طريقه نحو المطبخ. عاد الوالد بعد وهلة ومعه شاي صحراوي يرن خريره في أذن الفتى وتسلب رغوته في الكأس الصغيرة عينيه، ابتسم الفتى فهو يفنى في شرب الشاي ،وكانه أيضا تشرب حبه مذ كان في الأحشاء ، رشف رشفة منه وقضم بعض حبات اللوز ثم استأنف عمله، تابع الأب ابنه لمدة، لم يرفع الفتى رأسه وحين فعل قفز من مكانه صارخا: "أنهيت"، رفع الورقة عاليا كمن يحمل راية الانتصار بعد معركة طويلة والإبداع فعلا هو معركة داخلية نحس في نهايتها بنشوة النصر ،وكم تعجبه قولة يردده أبوه عن أستاذ له للفلسفة "إن الإبداع بمثابة دراما " ،أتم أول قصة له وبدا له إنجازه انتصارا عظيما لا مثيل له. نام يومها ممسكا قصته بين يديه، كان يرى في حلمه أناسا يحملون كلهم قصته ويقرؤونها بع أن كتبوها في ألواح خشبية، وعلامات الإعجاب بادية على محياهم.

استيقظ الفتى وفكرة الكتابة تدور في دماغه، أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت صدى يتردد في آذانه وصاحبه لسنوات ، حتى بعد انتقاله رفقة عائلته إلى منزل جديد، صحيح أنه لا يحتوي على حديقة، إلا أن مخيلته ما زالت تكبرفيها حديقته الأولى وبوتيرة سريعة، صارت أرضا خصبة لا تعرف الجفاف. مخيلته جعلت أنامله لا تتوقف لحظة عن حمل القلم، نهر دائم الجريان عذب ماؤه لطالما ألقى الفتى بمياهه في مختلف ابداعاته المدرسية وغيرها من المسابقات، فكرة أن يصير كاتبا ما زالت في أعماق رأسه، يوما بعد يوم تكبر وتتقوى عندما يرى ابتسامة من يقرأ ابداعاته، قطع على نفسه عهدا، ألا يتوقف عن الكتابة طول حياته، وجعل من مواقفه اليومية مادة دسمة لكتاباته ومخيلته بهارا يجعلها أحلى، ورغم بساطتها إلا أن التعبير عن البساطة بفنية يجعلها شيئا متميزا.

ذات يوم سأل الفتى والده: "هل يمكن أن أصير كاتبا كبيرا يوما ما؟". أجابه والده قائلا: "لا أرى شيئا يمكنه أن يمنعك. سيسعدني حتما أن أرى يوما نجمك يبزغ في كل مكان". نهض الفتى وتساءل مجددا: "يا ترى ماذا يعني اسمي؟". ضحك الأب وقال: "نسبنا (البكار) مشتق من الباكورة وهي الخضار التي تنضج مبكرا". قرر الفتى أن يجعل قصته الأولى تحمل عنوان "الباكورة ".

بقلم:

البكار المهدي




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

قصة ملهمة فعلا و كما قال لك والدك سيبزغ نجمك في كل مكان إن شاء الله 😍😍

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة