"إنه سحر اللغة العربية الكامن في حروفها ومعاني كلماتها المتجدد كتجدد الخلايا الجذعية في نخاع عظامنا"


أعشق اللغة العربية ليس لأنني أتحدثها، وليس لأنها لغة القرآن الكريم، وليس لأنها لغة أبائي وأجدادي فحسب، ولكن لأني وجدت فيها جمال ورونق ورقي وأدب جم ومساحة واسعة للتواصل والتعبير عن الذات. وكلما تمعنت في اللغة العربية أحببتها أكثر ، وودت أن أكون مدرسا للغة العربية. وأتذكر أن أكثر المدرسين الذين أثروا في تكوين شخصيتي الأدبية وحتي العلمية هم مدرسي اللغة العربية طوال فترة الابتدائي والإعدادي والثانوي، حتي أني أتذكرهم بالاسم. وما زالت ملامحهم العربية الكريمة ماثلة أمام عيناي، وما زالت مخارج الألفاظ من بين شفاهم تدغدغ مسامعي، وما زال شرح معاني الكلمات والعبارات يسري في دمائي ومنقوشة علي جدران قلبي وتعزفها دقاته.


وكان من الممكن أن ينزل القرآن بلغة أخري من التي كانت موجودة ومنتشرة في ذلك الزمان، مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو العبرية. ولكن الله أراد أن تكون اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، رغم أن تعداد من كانوا يتحدثون العربية آنذاك منحصر في منطقة الجزيرة العربية. ومع ذلك، كم نري الآن كيف أصبح أهل كل بلاد الشام وشمال افريقيا والسودان وبعض من بلاد وسط افريقيا يتحدثون اللغة العربية بطلاقة، حتي أن بعض البلدان لم تعد تستخدم لغتها الأصلية كاللغة الهيروغلوفية والقبطية في مصر.


وعندما أقارن اللغة العربية باللغة الإنجليزية الحديثة، والتي استخدمتها طوال فترة عملي في أمريكا، أجد تفوق كبير للغة العربية في التواصل والتعبير عن الذات وعن الآخر بأسلوب راق ومتفرد، وخاصة في حالة الضمائر. فعلي سبيل المثال لا الحصر، نجد أن كلمة You في الإنجليزية تعني أنت وأنتم وأنتن. ولذلك فالعربية تعطي لكل ذي مقام مقامه سواء في حضوره (ضمائر المتكلم والمخاطب) أو في غيابه (ضمائر الغائب). ففي اللغة الإنجليزية يستخدم ضمير He بمعني هو وضمير She بمعني هي وضمير They بمعني هما وهم وهن. أما في اللغة العربية فلكل مقام مقال حسب الضمير مع قدرة التمييز بين المثني والجمع وكذلك التفرقة بين جمع المذكر وجمع المؤنث.


هذه بعض الأمثلة التي أسوقها هنا كغير متخصص لا في اللغة العربية ولا في اللغة الإنجليزية، ولكن بقدر معلوماتي المتواضعة. وهنا يظهر بوضوح مدي التفوق الظاهر والجليّ للغة العربية علي اللغة الإنجليزية. وهذه الأمثلة وغيرها تجعلني أدرك بعض الأسرار وراء أسباب نزول القرآن باللغة العربية دون اللغات الأخري. فاللغة العربية تمتلك قدرة كبيرة في التعبير عن الذات وعن الآخر بطريقة أدق وأوسع ، مما يضفي علي معاني الكلمات رونق ورقي وقرب من القلب والعقل. ولأني ذواق للغة العربية ولأني كاتب وروائي واستخدم اللغة العربية في كتاباتي الأدبية، أجد نفسي أزداد انبهاراً في كل مرة أكتب فيها نصاً جديدا لدرجة أني أتعجب أحيانا كيف كتبت ذلك النص، ولكنه سحر اللغة العربية الكامن في حروفها ومعاني كلماتها المتجدد كتجدد الخلايا الجذعية في نخاع عظامنا.


كم أعشق اللغة العربية وأغار عليها في زمن أصبحت هذه اللغة غريبة فيه مع أنها لغة القرآن، ومع أنها هي اللغة التي نتواصل بها ونأكل ونشرب ونحلم ونمتمني ونتفق ونختلف بها. كم أتمني أن يكون للغة العربية في بلادنا مكانة أفضل في المستقبل القريب وأن تكون فوق كل اللغات. وسأظل أحلم بأن تكون اللغة العربية هي لغة التعليم في المدارس الدولية وليست اللغة الانجليزية أو الفرنسية أو الألمانية. وسيظل حُلمي الكبير بل الأكبر بأن تكون اللغة العربية يوما ما هي لغة نشر الأبحاث العلمية ولو بعد مئة عام.


سلام من القلب والعقل والوجدان علي اللغة العربية، وسلام علي كل من يجاهد في الحفاظ علي مكانة اللغة العربية بين تلاميذه أو في كتاباته أو في أحاديثه. ولا سامح الله كل من يتعدي علي اللغة العربية متعمدا سواء في كتاباته أو أحاديثه أو دروسه.


وإذا أتيحت لك الفرصة لقراءة هذا المقال، فأرجو أن تعقد نية الحفاظ علي اللغة العربية والدفاع عنها بالقدر الذي تمتلكه وتستطيع.


مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة