"وعلي غير كل مرة فوجئ بها تمد يدها اليه بحنان ودلال وهي تهمس في خجل "صباح الخير ، قلبي يراك ومشتاق لحبك"


وقف أمام الاختيارات بقلب يترنح في صدره من التوتر والشغف الممزوج بالشوق الجارف لهذا اللقاء الذي تمناه منذ أربعين عاما وما زال عالقا في أركان صدره المشتاق.


بأنامل مرتعشة، وصدر يفور بالأشواق، ورموش تُرفرف علي الأحداق، وأنفاس متلهفة، ونبضات قلقة، وعينان يطل منهما الشغف، أكمل أدهم البيانات والاختيارات المطلوبة في برنامج الميتافيرس. حدد الإسم الثلاثي والعمر والهيئة لنفسه وللآنسة وعد ثم حدد زمان ومكان اللقاء.


وفي أقل من ثانية فوجئ بوعد أمام عينيه على ناصية الشارع الذي تعود أن ينتظرها فيه منذ أربعين عاما وراء الشجرة كثيفة الأشجار والتي كان يُسميها شجرة الحب وعلى الناصية التي كان يسميها ناصية الحُب وفي نفس الشارع الذي كان يسميه شارع الُحب. هكذا كان يُسمي أدهم كل شيء تراه وُعْدْ أو مشت فيه ولو بعض خطوات أو مرت عليه أو أشارت إليه من بعيد ولو صدفة بالحُب.


لم يُصَدق أدهم نفسه عندما رأي شارع الحب وناصية الحب وشجرة الحب كما هم تماما كما كان يراهم منذ أربعين عامًا. نفس البنايات، ونفس الأوراق، ونفس الأرصفة، ونفس رائحة الصباح الباكر، ونفس أشعة الشمس والدفيء الذي كانت تشعر به خلاياه والفرحة التي تسري في عروقه ووعد قادمة هناك تتبختر في فستانها الأبيض المزركش بورود حمراء صغيرة ووجها البشوش وملامحها الطفولية المُفعمة بالأنوثة الطاغية والرومانسية الحالمة.


بعفوية ودون أن يدري وجد أدهم نفسه يختبئ وراء شجرة الحب قبل أن تراه وعد. نظر إلى بنطلونه الأسود وقميصه الأبيض ذو الياقات الكبيرة ليتأكد من حسن مظهره رغم أنه يحاول أن يختبئ عن عيونها الخضراوتين وشعرها الكستنائي الساحر. ففي كل مرة تأتي وعد كان أدهم يختبئ وراء شجرة الحب وكان حريصًا على أن يكون في أبهي مظهر رغم أنه يعلم أنها لن تراه. أخرج منديله الأبيض القُماش من جيب بنطلونه ليمسح به حبات العرق المتساقطة على جبينه من التوتر والقلق ووقف ينظر ويترقب خطوات وعد من وراء شجرة الحب وهو يُخفي جبينه بمنديله كالطفل الخجول.


مرت وعد من أمامه وشذا أنفاسها يعطر شارع الحب أمامها وخلفها وقلبه يلهث بدقات الحنين خلسة وراء شجرة الحب. وبعد أن ابتعدت وعد عن عينيه بعض الخطوات، ترك الشجرة ومشي ورائها وقلبه مُعلقٌ علي صوت خُطاها وحاله يتغزل في أثر أقدامها على ثري شارع الحُب.


ظل أدهم يدعو مع كل دقة من دقات قلبه ألا تشعر به وعد وألا تلتفت ورائها حتى لا تتوقف وتنظر إليه نظرة عتاب تُحطم بها أضلعه كما كانت تفعل كل مرة دون أن تهمس بكلمة واحدة قبل أن تُكمل طريقها غير عابئة به وبقلبه وهو واقف كتمثال من خجل لا يتحرك قيد أنملة. شعر بخطوات أقدامها على شارع الحب كألحان تعزفها له هو وحده دون غيره. تمني ألا تنظر ورائها هذه المرة حتى يطيل النظر دون أن تشعر بأقدامه الحثيثة.


وقبل أن تترك أقدامها شارع الحب لتستقل الحافلة على ناصية الشارع، فوجئ أدهم بوعد تتوقف وتدير وجهها إليه وهي تنظر بدلال وحنان في عينيه الغارقتين في بحور مشاعره، نظرات أذابت قلبه النابض بالخجل. وعلي غير كل مرة فوجئ أدهم بوعد تمد يدها اليه بحنان ودلال وهي تهمس بشفتيها في خجل "صباح الخير أدهم، قلبي يراك ومشتاق لحبك".


لم يصدق أدهم ما سمعه من وعد وظن أنه في حلم كبير. امتلأ قلبه بالفرحة وسرت في دمائه تيارات من الأشواق والحب والعشق والهيام حتى كاد أن يُغمي عليه من شدة الفرحة، فاليوم وعد ليست ككل مرة، لم تنظر إليه بنظرات العتاب واللوم علي تعمده السير ورائها. اليوم أفصحت له عن حبها لحبه، اليوم هو أجمل وعد من القدر لأدهم من وعد.


وما أن هم أدهم بالرد علي وعد ليعبر عن فرط سعادته وحبه وأشواقه وبأن هذه اللحظة التاريخية كان ينتظرها على أحر من الجمر لتتحول من حلم إلى حقيقة، حتي فوجئ بانتهاء فترة البث لبرنامج الميتافيرس. شعر بخيبة أمل كبيرة حطمت مشاعره. حاول أن يعاود البرنامج مرة أخري ليقول لها "أحبك يا وعد منذ أن خُلقت حتى حدث ما حدث وافترقنا منذ ثلاثين عامًا". ولكن كان الرد الفوري "نأسف، فقد نفذت الفترة المسموحة لكم على البرنامج، ويسعدنا أن نلتقي بكم مرة أخري عندما تأتي فرصتكم على قائمة الإنتظار".


شعر أدهم بأن روحه تُنتزع من حُلقومه، وبأن دماء مشاعره تتجمد في قلبه. خلع النظارات ثلاثية الأبعاد عن عينيه، وقفازات الإحساس والحركة عن يديه، وعداد الأحاسيس والمشاعر عن معصمه، وشريحة الزمان والمكان عن صدره، وعاد إلى كهولته بعد أن عاش الصِبا والحب للحظات لم تكتمل مع حبيبة العمر، حبيبة الماضي الذي كان في مكان غير المكان وزمان غير الزمان.


ترك المكان وخرج إلى الشارع يبحث عن ناصية الحب، ولكنه غاص وسط الزحام ونداء الباعة وصخب الشباب وأضواء الحياة بلا رفيق بعد أن تسلق حبال اللقاء في خيالات الزمن مع وعد ولكن بدون وعد.


تمت


مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة بكلية العلوم جامعة طنطا

مقرر مجلس بحوث الثقافة والمعرفة

أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

www.mohamedlabibsalem.com



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة